من المؤكد أن تتعدد قراءة المبادرة الإنسانية التي طرحها خادم الحرمين الشريفين، بوصفها مخاض الويلات الجسام التي مرت بها الإنسانية عبر تاريخها (الأيديولوجي) والسياسي، وهي قراءات تَنْسِل من أنساق ......
ثقافية وخلفيات سياسية ومصالح آنية، قد يصعِّدها البعض لتكون إضافة إلى محرضات الفرقة، على حد: {ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} (التوبة: 9-47).
والعالم الذي تقبَّل المبادرة بقبول حسن سيعود قادته إلى مؤسساتهم التشريعية والتنفيذية وإلى قادة الفكر والثقافة لينظروا في مدى إمكانية التفاعل الإيجابي معها، وترجمة مشاعر القبول والرضى بحفظ الألسن وكف الأيدي وإبداء حسن النوايا لتحقيق أدنى حد من التعايش السلمي بين الأمم.
وسواء استجابت الشعوب بمختلف أطيافها وأذعن القادة بمختلف اتجاهاتهم أم تفاوتوا بين الاستجابة والتحفظ والرفض، فالمملكة على كل الأحوال كسبت الرهان، وألقت القضية في شباك الدول المتوترة من عمليات الإرهاب والمناوئين للعدالة والوفاق.
ومهما آلت إليه المبادرة فإن لغة الاتهام والارتياب لن تكون كما هي من قبل، ذلك أن المملكة التي حملت الرؤية العربية والإسلامية إلى أروقة الأمم المتحدة في دولة القطب الأكبر، وحولتها إلى حدث عالمي مشهود وأصبحت وثيقة تاريخية لن يستطيع مغالط أن يحجبها أو أن يشكك في ثبوتها أو في نواياها، لأنها حدث عالمي تجسَّد بكل أبعاده تحت سمع العالم وبصره وتحت قبة عالمية، وإن كان ثمة مراوغة أو تنصُّل فإنها ستكون في القراءات المتآمرة وعبر نظريات التلقي والتأويل والتفكيك؛ فهي القادرة على تحريف الكلم من بعد مواضعه والدخول بها في مماحكات تحمِّل بنودها ما لا تحتمل وتذرها كالمعلقة.
ومبادرة المملكة الإنسانية لها ما بعدها، متى استوعبت كافة الأطراف المقاصد والغايات وقبلت حدود التداخل الدائري بين الحضارات الإنسانية.
وقَفْوُ الأحداث تحدوه آمال متفاوتة بتفاوت الخلفيات الثقافية والحالات النفسية والأوضاع المتماسكة أو المتردية عند كل فئة ذات مساس وكم من رهانات متناقضة يراها المتفائلون والمتشائمون والمتشايلون والمخذلون قد لا يجدون ما يحملونها عليه؛ فالطرح الوجل لمثل هذا اللون من الخطابات محاولة جادة لإيقاف التدهور المرعب في العلاقات الدولية، وما كان لخطاب الوسطية والتسامح والحوار والتعايش والسلام ليكون لولا استفحال الصراع المرهق للشعوب المغلوبة على أمرها.
والمشروع الإنساني الذي تبناه الملك عبدالله واتخذ طريقه إليه خطوة خطوة من (مكة) إلى (مدريد) ومنها إلى العالم أجمع في (نيويورك) يُعَدُّ بحق مطلباً إنسانياً، ولا سيما أن العالم يمر بانهيارات أمنية واقتصادية. والقضاء الناجز على بؤر التوتر لا يمكن أن يتم بين عشية وضحاها وبأقل التضحيات، وصدق الله: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ}، ولأن مرحلة التنفيذ أصعب مما يتصورها الخليون؛ فقد جاءت عبر ثلاث خطوات وئيدة:
- الحوار الحضاري بين أطياف المجتمع الواحد لتفادي التصدع.
- التقريب بين المذاهب داخل منظومة حضارية واحدة لتوفير القواسم المشتركة
- حوار الأديان لإحلال التعايش محل التناحر.
ولقد أعطي لكل مرحلة من الفرص المادية والوقتية والتنظيمية ما أتاح لها تفادي أي عقبة تحبط الآمال، والتوفر على كافة الإمكانات لا يمنع من توجس الخيفة؛ فالمصلح لا يمكن أن يخلو له الجو ليمارس مهمته في ظروف مواتية، والعقبات التي تعترض سبيله والمفاجآت غير السارة التي تنبعث من بين يديه ومن خلفه هي بعض ما وعد الله به من الافتتان، غير أن الصبر والمصابرة والمرابطة والتقوى والإيمان بعدالة المشروع والاحتساب تهون معها كل المصاعب وتضمحل معها كل المخاوف وإذا علم الله من عبده صدق المقاصد وحسن النوايا دفع عنه الغوائل: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا}، {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ}.
وما يعانيه العالم من صراعات وإرهاب وغطرسة وتدخلات سافرة في السيادات الوطنية وما يعتمل في المشاهد من صراعات إثنية وطائفية ومصلحية.. كل ذلك يحفز عقلاء العالم على التفكير الجاد لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من حيوات زاهقة وكرامات مدنسة ومثمنات مخربة.
وأحسب أن مبادرة الملك عبدالله من الفرص النادرة التي يجب أن يبتدرها زعماء العالم لإنقاذ شعوبهم من ويلات الفتن العمياء التي لا تصيبن الذين ظلموا خاصة، والتجربة الحية أثبتت أن القوة وحدها لا يمكن أن تحسم المواقف لصالح الأقوى؛ ومن ثم لا بد من لغة الحكمة والأناة والدفع بالتي هي أحسن، وما اكتسح (أوباما) خصومه إلا بوعدين (إقالة العثرة الاقتصادية) و(تحسين الصورة الأمريكية) ولن تتحقق تلك الآمال في ظل الشقاق وعدم الوفاق مع العالم الثالث.
وإذ يستبعد المتفائلون صراع الحضارات، كما جاء في رد (هارالد موللر) على (هنتنغتون) في كتابه (تعايش الثقافات) بإحالة ما يبدو من الصراع إلى صدام المصالح وغطرسة القوة، فإن من الممكن أن يكون الغلو والتطرف والتعصب والجهل والتآمر والأزمات الاقتصادية والاستبداد السياسي وبؤر التوتر في أنحاء كثيرة من العالم من المحرضات على الصدام.
وكل القراءات المتوازنة لن تضرب صفحاً عن أحداث مصيرية غيَّرت مجرى التاريخ الحديث؛ لأنها المؤثر الأقوى على قراءة المستقبل، فانهيار الاتحاد السوفيتي، وضرب البرجين، والانهيار الاقتصادي وحروب الخليج وأفغانستان سيكون لها مجتمعةً أو متفرقةً أقوى التأثير على مجريات الأحداث، وكل حدث جلل لا بد أن يغير الخوارط السياسية والأولويات والمصالح والأصدقاء والحلفاء، وهذا ما يعانيه العالم اليوم وهو المرهص لهذه المبادرة التي جاءت على قَدَر لتوقف التدهور وترأب التصدعات المخيفة.
والمملكة بوصفها الدولة الأهم على المستويين العربي والإسلامي لا يمكن أن تنكفئ على نفسها، ولا أن تعيش على هامش الأحداث؛ لأنها من الدول الحمَّالة، وتدهور الأوضاع العالمية سيضعها في جَفْن الردى وهم قائم، وهي إذ تبادر على كل الصعد وعلى مختلف المستويات العربية والإسلامية والعالمية فإنها تمارس حقها وواجبها في آن، والمراقبون الذين يباركون هذه الخطوة الجريئة يتخوفون مما ستكون عليه ردود الأفعال من المستفيدين والمتضررين، وكم أتمنى من عقلاء العالم أن يحولوا دون القراءات التعسفية التي يُراد منها إجهاض المشروع الإنساني ووضع العراقيل في طريقه، وبوادر التحدي للمشروع بدت من فلتات الألسن ومن لحن القول، وما تخفي الصدور أكبر، المتمثلة بالقراءات التعجيزية والتيئيسية والتحريضية والتخويفية، ولقد حذَّرْت في مقالات سابقة من التأويلات الفاسدة للمبادرة، فحين يكون من المتعذر مواجهتها يلجأ المرجفون إلى تفسيرات مضللة وتأويلات مخيفة.
ومن البدهيات أن الملك عبدالله في شأنه كله لا يمكن أن يزايد على ثوابته الدينية ولا على محققات حضارة الإسلام، كما لا يمكن أن تمس المبادرة الحقوق المشروعة لدول العالم الثالث، وكيف يتصور منه مثل ذلك وهو سليل بيت سلفي مستنير يترسم خطى الذكر الحكيم، ويدفع بروح الإسلام ومقاصده الإنسانية القادرة على الوفاق والتعايش. إن المبادرة الحضارية تنطلق من قعر الإسلام وغاياته، ومن قواعده وأصوله الغائبة في بقاع كثيرة من العالم: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا}، و{وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً}، {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ}، {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ}.
فالبر والعدل والإجارة وحسن القول والجنوح للسلام هي جماع المبادرة الحضارية التي أطلقها الملك عبدالله وتلقاها قادة العالم بتفاؤل حذر.
ومن قرأ المبادرة الإنسانية على غير هذا الهدي أو أراد منها ما لم يرده قائد إسلامي يعرف حدود ما أنزل الله فقد ضل ضلالاً بعيداً. إنها فرصة ثمينة وفواتها سيحمل العالم مزيداً من الويلات.
فهل يستطيع قادة الفكر والسياسة الارتقاء بمشاعرهم والخلوص من الأطماع العاجلة لتمكين العالم التائه من العودة إلى سواء السبيل؟
إن على العالمين العربي والإسلامي أن يعُضَّا عليها بالنواجذ لكي يثبتا للعالم أنهما دعاة سلام، وأنه لم يعد بالإمكان احتمال مزيد من الفتن التي لا تبقي ولا تذر.