تشترط النظرية الاقتصادية توافر المعلومات لجميع الوحدات الفاعلة في النشاطات الإنتاجية والاستهلاكية المختلفة؛ حتى تضمن تحقيق ظروف المنافسة الكاملة التي يعوّل عليها في زيادة مستويات الفاعلية والكفاءة والتي لها الدور الكبير في تقدّم الاقتصاد الوطني من خلال ازدهار قطاع الأعمال؛ فالحصول على المعلومات الضرورية بأقل التكاليف يترتب عليه تكافؤ الفرص بين الوحدات الاقتصادية المتنافسة ومن ثم العمل على تحسين جودة وانخفاض أسعار السلع المختلفة. الشفافية إذن هي بمثابة إعلان عن الفرص المتاحة من خلال توفير المعلومات الضرورية لصانع القرار؛ حيث لا تستأثر جهة ما أو عدد قليل من المنتجين والمستهلكين بالنشاطات الاقتصادية؛ ما يقضي على المنافسة من خلال السيطرة التامة على النشاط في شكل احتكار مطلق أو احتكار قلّة؛ لذا فإن اتفاقيات منظمة التجارة العالمية تطلب من الدول الأعضاء نشر وإشهار القوانين التجارية؛ حتى يتسنى للمستثمرين والشركاء التجاريين الدوليين الحصول على المعلومات الضرورية قبل الدخول في تعاقدات قد يترتب عليها نزاعات تجارية مكلفة وقتاً ومالاً. ينتهج كبار الموظفين البيروقراطيين سلوكاً انتهازياً يبحث عن المصالح الخاصة على حساب المنافع العامة، وذلك بالاعتداء على الممتلكات والأموال العامة، وتتم تلك الممارسات المشينة في سريّة تامة بعيداً عن عيون رقابة المؤسسات الحكومية التي من المفترض أن تكافح الفساد الإداري، خصوصاً في ظل غياب المؤسسات الشعبية التي لها الدور الأكبر في رقي الأمم المتقدمة؛ لذا فإنه ليس محض مصادفة أن يستشري الفساد المالي والإداري في الأنظمة التي تتدنى فيها مستويات الشفافية.
لكن التساؤل المشروع هو: ماذا عن أهمية الشفافية في قرارات قطاع الأعمال ولاسيما في ظل العولمة الاقتصادية وثورة الاتصال؟ شركات القطاع الخاص تتخذ قراراتها في الاستثمار والتوسع المستقبلي من خلال دراسات واقعية ومستفيضة، تحاول قراءة المستقبل بشكل دقيق من خلال التنبؤ بالعديد من المتغيرات الاقتصادية التي من المفترض أن تنعكس على أداء ومن ثم الأرباح المتوقعة لتلك المنشآت، وبالتالي فإن دراسات الجدوى تعتمد على العديد من الإحصاءات التي تقدّر الطلب على السلع وحجم السوق وتكاليف الإنتاج. الغالبية العظمى من تلك الإحصاءات تجمعها وتحللها وتنشرها العديد من الأجهزة الحكومية من خلال فرق عمل متخصصة تستخدم أساليب إحصائية معروفة مثل المسح الإحصائي والعينات العشوائية التي عادة ما تكون عرضة للخطأ والنسيان، خصوصاً إذا كان الموظف الذي يقوم بالقياس لم يحصل على التدريب الضروري لاكتساب المهارات الأساسية في جمع وتحليل المسوحات الإحصائية؛ لذا فإن العديد من الإحصاءات المنشورة من قبل الأجهزة الحكومية عادة ما يشوبها الخطأ بسبب الإهمال والتقصير في توخي الدقة والاهتمام بتلك المعلومات. بل إن الأمر اللافت للنظر هو تضارب الإحصاءات الحكومية وفقاً لاختلاف الجهات المعنية التي تقوم بنشر البيانات، فعلى سبيل المثال هناك تناقض صارخ في نسب البطالة بين ما تنشره وزارة العمل ووزارة التخطيط والاقتصاد الوطني، ففي الوقت الذي تصر فيه الأولى على صغر نسبة السعوديين الذين يعانون من البطالة تنشر الأخيرة إحصاءات أكبر للعاطلين عن العمل. يحق لنا أن نتساءل عن سبب هذا التناقض؟ يلجأ العديد من كبار المسؤولين إلى المبالغة في عرض الإحصاءات الإيجابية التي تتعلق بوزارته أو إدارته بهدف تجميل أدائه في نظر صانعي القرار دون أن يضع في الحسبان التكاليف المحتملة من نشر معلومات مغلوطة وبشكل متعمّد خصوصاً إذا بُنيت سياسات واتُّخذت قرارات وفقاً لتلك المعلومات المكذوبة.
إذا كان الوضع كذلك فما هو البديل؟ الخيار الأول هو أن تتحمّل الجهة الراغبة في الحصول على المعلومات عناء وكلفة جمع وتحليل وتبويب الإحصاءات من خلال القيام بالمسح الإحصائي، وهذه الطريقة قد تكون في بعض الأحيان مستحيلة؛ نظراً إلى امتلاك الأجهزة الحكومية المعلومات، ولا يمكن الحصول عليها من خلال المسح الإحصائي أو قد تكون الكلفة عالية جداً بحيث لا تستطيع أن تتحملها جهة ذات ميزانية محدودة. الطريقة الأخرى هي الحصول على المعلومات عن طريق نشرات المنظمات والمؤسسات الدولية التي يُفترض أن تتحرى الدقة والشفافية فيما تنشره عن البلدان الأعضاء، لكن التحفظ يبقى على سلامة ودقة تلك المعلومات ولاسيما أن المصدر هو نفس الجهات الحكومية التي مارست التعتيم في الداخل وتعمدت نشر معلومات مضللة ومسبوغة بالمصلحة الفردية. كما أن الاعتماد على المعلومات التي تنشرها المنظمات والجهات البحثية الدولية محفوفة بنوع آخر من فقدان المصداقية؛ نظراً إلى كون تلك المعلومات عرضة لتوجهات سياسية قد تحجب الحقيقة عن الباحث المحايد الذي يرغب في الحصول على نتائج علمية بحتة بعيدة عن الأهواء الشخصية والمواقف الأيديولوجية.
إن الحصول على المعلومات والإحصاءات الدقيقة والصحيحة شرط ضروري لتبني سياسات كفيلة بعلاج المشكلات التنموية التي تواجه البلدان النامية كالفقر والبطالة والفساد المالي والإداري وتراجع الخدمات الحكومية، كما أن الشفافية تُعتبر أداة مهمة لنجاح مشروعات القطاع الخاص التي تعتمد على كمٍّ هائل من البيانات والإحصاءات الضرورية لاتخاذ القرار الصحيح المؤدي إلى النجاح ومن ثم يقود إلى التقدم الاقتصادي للمجتمع؛ لذا نجد أن الشفافية المطلقة هي حجر الزاوية والمبدأ الأساسي في المكون الثقافي للدول المتقدمة. يعتقد العديد من الباحثين في حقل التنمية الاقتصادية أن تفوق الدول الصناعية يعود إلى تبني سياسات اقتصادية قادت إلى هذه المستويات الهائلة من الرقي والازدهار، لكن تلك السياسات لم ولن يُكتب لها النجاح دون توافر المعلومات الدقيقة المتاحة للجميع والمكفولة بالقوانين المحلية التي تؤكد مبادئ الشفافية وتزرع النزاهة وتحارب الفساد وتقضي على الارتزاق من الوظيفة العامة. لقد حققت دول العالم الأول هذه المستويات من التقدم من خلال ضمان حرية الصحافة والنقد الهادف، وقبل كل ذلك التأصيل القانوني لمبدأ الحق في الحصول على المعلومات.
أستاذ الاقتصاد المساعد بمعهد الدراسات الدبلوماسية
mqahtani@ids.gov.sa