Al Jazirah NewsPaper Saturday  15/11/2008 G Issue 13197
السبت 17 ذو القعدة 1429   العدد  13197
الالتفاف على مقاصد التعدد معضلة أخلاقية
حمد عبدالرحمن المانع

يعتقد بعض الناس أن من يكتب في التعدد ويتناوله وفق رؤية موضوعية، بأنه يعترض على أمر أحله الله. وهذا التصور حتماً لا يمت إلى الافتراض على هذا النحو المغالط بصلة. فالتعدد مباح، ونبي الهدى عليه الصلاة والسلام كان لديه أكثر من زوجة، ومن الصحابة رضوان الله عليهم من تزوج بأكثر من امرأة. غير أني سأخوض في التعدد من حيث المبدأ، والحكمة منه، والأبعاد الإيجابية التي تعود على المجتمع المسلم بشكل عام من الهدف السامي للتعدد. ومن المعلوم بأن الرجال أكثر عرضة للأخطار من النساء، سواء من يقضي منهم في الحروب، أو الحوادث الأخرى بحكم مسؤولية الرجل في القوامة بهذا الخصوص، والتي تفرض عليه البحث عن الرزق من مصادر العمل المختلفة، وقد تكون المهنة ذاتها تشكل خطراً عليه كرجال الأمن والدفاع المدني وسائقي سيارات الإسعاف، ناهيك عمن يعملون في مجالات فنية مختلفة ومرتبطة بالمكائن والآلات. من هنا يجسد التعدد بعداً خلاقاً، لكفالة الأيتام الذين يتوفى والدهم في مثل هذه الأحوال، وتحصيناً للمرأة كذلك التي لها الحق في العيش الكريم بمعزل عن ذل السؤال والهموم التي ترتبط بمستقبل أولادها ورعايتهم، فضلاً عن حقها في الحياة كامرأة لديها من المشاعر والأحاسيس والحاجة إلى الإشباع المعنوي ونحو ذلك. وقال المولى تبارك وتعالى في الكتاب الحكيم: (وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً). نستنتج من الآية الكريمة أن التشريع يتركز على الحكمة، وتتجلى الحكمة في حسن الاستنباط والعلم به، والإحاطة بأبعاده الشاملة. فلو فُرض التعدد وأُدرج في نطاق الواجب لامتثل المؤمن لأمر ربه طائعاً، ولكنه تُرك كخيار فريد فذ لتحقيق التكافل بمفهومه الشامل في المجتمع، والأبعاد القيمة التي تتجسد في تشريعه كقيمة إنسانية تحمل في طياتها الخير. غير أن الشارع الحكيم فرض الضبط في هذه المسألة في الآية الكريمة: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً). ويفرض العدل في هذا السياق المنطقي المترابط حق المرأة بهذا الخصوص، وتقدير الرجل في هذه الناحية. فتحقيق العدل في هذه الحالة يتطلب قياساً دقيقاً للمرئيات، وإخضاع التصور للاحتمالات بشكل منصف ولائق في ذات الوقت، وينأى به أن يأتي يوم القيامة وشقه مائل. من لا يعدد يخشى من عدم تحقيق العدل وهذا من حقه، ومن يرغب في التعدد فإنه يتوجب عليه تحقيق أهم أركانه، ألا وهو العدل. ولا أعتقد أن تحقيق العدل يتأتى بمعزل عن مساهمة الزوجة في هذا الإطار، فالنبي الكريم استأذن من زوجاته للمبيت عند عائشة، وهذا دليل على خلقه الكريم ومراعاته للأحاسيس والمشاعر. فكيف بمن يتزوج في السر فضلاً عن الاستئذان في المبيت، وتتكرس بعض المفاهيم الخاطئة من حيث تطبيق التعدد كأسلوب مثالي لحفظ المجتمع وأولاده وبناته، فبمجرد توفر المال يقفز في ذهنه الاعتقاد بتحقيق هامش أكبر من التمتع في الحياة، برهن هذا المفهوم وتطويعه رغبة في نفسه، وليس نبلاً يستلهم الشهامة، كأن يبحث عن أيتام يكفلهم بالزواج من أمهم، بل قد يقوم البعض بالزواج من مال زوجته ليحذف المروءة من قاموسه الذي ينضح بالسوء، ويزيل الاعتبارات الأخلاقية والإنسانية، في استغلال فج لا يمت للقيم بصلة. وعلى النقيض من هذه النماذج المهترئة، تأبى الإضاءات البراقة إلا أن تسطر الملاحم الإنسانية الرائعة، بضرب أروع الأمثلة للقناعة والإخلاص، حينما تجد رجالاً قد مَنَّ الله عليهم بالخير الوفير وأصبحوا من التجار بتجارة صنعوها بأنفسهم، إلا أن الحس الأخلاقي المرتبط في تكوينهم الثقافي الرائع، يترجمه إخلاصهم لزوجاتهم وورعهم الذي يتجلى في الخوف من رب العالمين من مغبة عدم تحقيقه العدل. فإذا كانت بمقاييس الربح والخسارة فإنهم يؤثرون الربح في هذه النواحي، ودعم كنوزهم بكنز لا يفنى ألا وهي القناعة. ولما كان لكل قاعدة شواذ، فإن هناك من يشذ عن هذه القاعدة، ويبتر السياقات الدلالية المتزنة للمضمون وتبقى شكلاً في إطار الإباحة، بتهيئة الأرضية الملائمة لتبريرات لا تعدو عن كونها رغبة في الاستمتاع، والالتفاف على المقاصد في تحايل ينبئ عن فراغ في المحتوى الفكري، فلو عرضت عليه في حالة رغبته في التعدد أرملة تعول أيتاماً أو توفي عنها زوجها، فإنه حتماً سيعرض عنك وعن فكرتك، حينما يغوص في الوسيلة دون النظر إلى الغاية التي تبررها في مماحكة نفعية مرتبطة بما تحققه له هذه الأنانية الموغلة في الاستئثار واستغلال ظروف الفقراء وفي نطاق الغطاء المبيح له انتهاج هذا المسلك. وهكذا تتراكم المبررات والمآخذ على الحقوق بشكل عام والمرأة بشكل خاص، في الوقت الذي يتم فيه استغلال الرخص وإفراغها من محتواها القيمي الدال على قوة العدل في الإسلام الذي يرعى الحقوق، في حين أن التطبيق بهذا الصدد وبهذه الصيغة يساير المبدأ شكلاً لا مضموناً، يحمل في طياته أسمى عناصر التكافل بكل ما يحتويه من آثار إيجابية تعود بالنفع للفرد والمجتمع على حد سواء.



Hamad@asas-re.com

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد