هكذا يبدو لنا أن من خصائص العصر الحديث العنف السلوكي، والتعصب الاجتماعي، والعدوان المهين بقصد إيلام بل وتدمير الآخر، والغضب الهجومي، والانغلاق والجمود والتصلب.
ونشهد في حياتنا ومعايشتنا اليوم وفي المشهد الاجتماعي صور مؤلمة لواقع هذه الخصائص مجسدة في مواقف وأحداث نطالعها يومياً في الصحف قتل وضرب ومشاجرات وتعدي على النساء والأطفال وتصادمات وخروج على النظام، وتسيب بعض الفئات واستهجان للقيم والمعايير ولفظ للموروث الثقافي وتماهي بثقافة الآخر، وإخفاق في السلوك الاتصالي في المحيط العائلي أو المحيط الاجتماعي.
وما من شك أن حالة العنف والعدوان أياً كانت أنماطها وظواهرها وسماتها فهي تعبر عن حالة البثالوجيا (الأمراض) الاجتماعية التي يعم وباؤها وينتشر في بقاع كثيرة فلا غرابة من أن ينقل الوباء إلينا بعد أن صار العالم بفعل العولمة الثقافية والسماوات المفتوحة في عداد القرية الواحدة.. نظراً لزوال الحدود والمحددات.
ولن ندخل في جدال حول ثقافة العولمة وثقافتنا العربية الآن.. غير أن القول لدينا إن سلوك العنف والعدوان يمثل تحديثاً لواقعنا الثقافي وتاريخنا الحضاري ووجودنا الاجتماعي. فما تشخيص هذا الداء؟ وما هي الوصفة المناسبة في إمكانية التصدي له؟
ولنضع في بالنا بدءاً أن هذا السلوك (العنف والعدوان) شأن اجتماعي في بواعثه ومخرجاته، وله تأثيراته في حياتنا العامة مما يفرض التصدي لهذا السلوك مشاركة أنساق ومؤسسات الدولة الرسمية واللارسمية، المدنية والشعبية ليصدر التشخيص واقعياً، وترسم الوصفة المناسبة لهويتنا الثقافية بعيداً عن أي محاولات لاستعارة نماذج أو تقليد مخططات أو محاكاة برامج لما هو قائم في مجتمعات أو ثقافات أخرى غيرنا.
إن خطورة هذا السلوك المرضي في انعكاسه السلبي في مسار الرقي الحضاري والتقدم الإنساني. فهو سلوك مضاد لحقوق الإنسان ورافض للتسامح والسلام ومستخف بالنظام ومستهين بالآخرين ومنكر لحقوقهم في الأمن والاستقرار.
ومن ثم فإن العنف والعدوان عامل مهدد للأمن الاجتماعي بل ومصدع للبناء الاجتماعي ومعرقل لمسيرة التنمية.
ويساهم في تشكيل هذا السلوك عدة عوامل نفسية واجتماعية وثقافية تتمثل في فكرة (التشدد قبل الممنوعات) في الفكر والسلوك، والوعيد -بالعقاب والتعذيب- لمن يجرؤ على فعل الممنوع. وعامل آخر له الغلبة -إلى حد ما- يتمثل في الانغلاق الخاطئ على أساليب في التربية مقيتة متجذرة في اللاوعي الجمعي وغير قابلة للنقد علماً بأنها عامل حاسم في الفعل الاجتماعي وتقف صداً مانعاً من العبور إلى ما هو متجدد ومبتكر ومبدع وحديث (فممنوع الاقتراب والتصوير).
إن عدم الاقتراب من إبداعات وفنون وثقافة الآخر تفتح الباب للخيالات والتصورات واختلاس المعلومات والنظرة المحرمة لما لدى الآخر مما يبعث على تناقض القيم وسوء العلاقات المتبادلة بين أفراد المجتمع.
وعسانا في هذا السياق نجيب عن سؤال مُلح مؤداه:
هل سلوك العنف والعدوان ذو نزعة فطرية في الإنسان أم أنه متعلم ومكتسب؟
إن الإجابة عن هذا السؤال لعلها تشير إلى سبل التصدي والعلاج:
أولاً: إن سلوك العنف والعدوان سلوك يتم تعلمه واكتسابه بالتقليد وبتبني اتجاهات تعصبية وبتربية قاهرة ومتسلطة وبممارسة محفّزة.
ثانياً: يرتبط العنف بمفهوم الذات (الموجب أو السالب)، ويستقر في اللاشعور قابل للاستجابة الضدية.
ثالثاً: يتخذ سلوك العنف والعدوان مرحلتين: مرحلة التهيؤ ثم التفعيل من خلال الاحتكاك الاتصالي بالآخر. وقد يظل مجرد نية كامنة وقد يتجسد في ممارسة واقعية كما هو الحاصل الآن من عدوان يتمثل في القتل والضرب والشتم والسب لأسباب قد تكون تافهة لا توصل لهذا العنف والعدوان مثل ما حصل لقتل أحد العمال من قبل مواطن ونشرته هذه الجريدة.
رابعاً: يرتبط تفعيل سلوك العنف بالغرضية وقد تكون فردية أو جماعية حيث تأخذ الجماعة في سبيل تحقيق غرضها التشكيل العصابي.. أشد مستويات الخطورة على الإطلاق.
خامساً: قد يتخذ العنف (فردي أو جماعي) لإشباع نزوات غرائزية مكبوتة، أو لاستجابة لاستثارات عاطفية جامحة.
سادسا: ثمة علاقة توترية (دائرية) بين سلوك العنف والعدوان والتعزيز فكل منها يفضي للآخر وبالعكس.
سابعاً: هل الخلل في الأسرة أم في المدرسة أو في المجتمع ومؤسساته؟
هذه الحقائق تشير إلى رصد واقع التربية والكشف عن مدى حضورها في المجتمع لترصد مشكلاته، وتتعرف على تطوراته.. ومواقفه الفكرية من توظيفات الحضارة الإنسانية المعاصرة بخاصة في إطار ثقافة العولمة التي تطرح بثقلها دلالات الاتباع السياسي والاجتماعي والثقافي، وعلى التربية إزاء ذلك ضرورة استيعاب هذه الدلالات بصورة أكثر موضوعية.
إن الصراعات التي يعيشها العالم المعاصر وتباينات القوى أوقدت النزاعات ومسلكيات العنف والعدوان والخصومات وتكريس الكراهية وتسميم العقول بالأفكار الهدامة وبتقديم صور جديدة لتصورات اجتماعية متجددة، مما أدى إلى تحول في مضامين المفاهيم تحت زعم الحداثة وما بعد الحداثة والإصلاح والتنوير والحقوق الطبيعية وحقوق الإنسان، والعنف والعنف المضاد.
فأين مؤسسة التربية من هذا كله.. العبء كبير. وأين مراكز البحوث في وزارة الداخلية والجامعات وبخاصة جامعة الأمير نايف العربية للعلوم الأمنية لدراسة هذا العنف في مجتمعنا الذي أصبح شبه ظاهرة ووضع الحلول المناسبة ليظل مجتمعنا مجتمع الأمن والأمان كما كان وسيظل إن شاء الله في ظل توجيهات خادم الحرمين الشريفين وسمو ولي عهده الأمين وسمو وزير الداخلية حفظ الله إسلامنا وبلادنا من كل مكروه والله المستعان.