** بعض المناسبات التي يحضرها الإنسان عندما يخرج منها لا يبقى منها أثر في نفسه، وبعضها تحس أن هذه المناسبة لها تأثير عليك وعلى رؤيتك وسلوكك سواء فيما يتعلق بموضوعها أو كلماتها أو مناشطها!.
مساء الثلاثاء الماضي حضرت مناسبة ستظل عالقة في ذاكرتي لأسباب كثيرة:
أولاً: موضوعها الذي أُقيم احتفال المناسبة من أجله ألا وهو تكريم النزاهة، وثواب ومكافأة الشفافية، والإسهام في التحفيز على العدل.
وثانيها: الكلمات المتميزة التي أُلقيت فيها والتي خرجت عن نطاق الكلمات (النمطية) التي تُلقى عادة في المناسبات.
** وبدءاً أُحيي من تبنى فكرة وجائزة (سعفة القدوة الحسنة: الشفافية والنزاهة) سمو الأمير الفاضل تركي بن عبد الله بن عبد الرحمن الذي غرس فكرة هذه البذرة وسعى لها، وبذل ووظف من أجلها ليس ماله فقط ولكن رأيه وجهده وعلاقاته فجزاه الله خير الجزاء.
** أتوقف ثانياً في هذه المقالة عند الكلمة المتميزة المؤثرة التي ألقاها سمو الأمير العادل الذي يقول ما يفعل سلمان بن عبدالعزيز -وهذا الوصف له كافٍ عن كل لقب وثناء- لقد كان الأمير في كلمته ليلة تكريم النزاهة والاحتفاء بالشفافية يتحدث عما ينفذه فعلاً ويترجم جزءاً من تجربته في عمله، ويروي بعضاً مما مرّ عليه، وقد علمت أن سموه كان سيلقي كلمة مكتوبة، لكن بعد حضوره، وبعد سماعه كلمة معالي الشيخ د. صالح بن حميد رأى أن يتحدث سموه عما يكنه (القلب) الذي بين جوانحه لا أن يقرأ (الورق) الذي بين يديه، وكم كان سمو الأمير سلمان متأثراً ومؤثراً وهو يتحدث بشفافية مطلقة في هذه المناسبة التي عنوانها الشفافية) كما تأثر سموه وهو يلقي كلمته فقد تأثر الحضور وهو يتحدث عن جانب من جوانب تجربته كحاكم ويروي بعض القصص التي عاشها والتي كان (العدل) هو المفردة الأهم في تفاصيلها ومفاصلها وما يخرج من القلب يقع بالقلب، كان سموه موفقاً عندما أبان عما تقوم عليه هذه البلاد: قرآن ربها وسنة نبيها والتي هي أكبر ركيزة للعدل والنزاهة، وقد أشار بوفاء منه إلى عمله مع إخوانه الملوك سعود وفيصل وخالد وفهد رحمهم الله، ثم الملك عبدالله -حفظه الله- وكيف كان حرصهم على كل ما يصلح هذه البلاد ويخدم شعبها في تعاون محمود بين القادة والمواطنين على البر والتقوى في إزالة الظلم وإقامة العدل.
وقد روى كيف يوجهه أخوه الملك عبدالله عندما يبعث له خطاباً حول أي موضوع يتعلق بمواطن أو مقيم أو يرسل له شخصاً رفع له شكوى.
وتكون عبارة الملك عبدالله (إن هذا الموضوع يخرج من ذمتي إلى ذمتك)، تُرى أين القائد في مثل هذا العصر الذي يتمسك فيه الزعماء بالكرسي ولو على حساب حقوق الناس وذممهم ناسين أن لديهم ذمة وضميراً.. بينما في بلادنا يوجه الملك أخاه بتطبيق العدل وتذكيره بأن الموضوع خرج من ذمته إلى ذمة أحد منفذي أوامره، ثم روى سمو الأمير سلمان قصة الموظف الصغير الذي لفت النظر إلى تناقض خطابين صدر بهما حكم واحد وعندما تبين لسموه صواب رأي الموظف طلبه وظن البعض أنه سوف تتم مجازاته.. لكنني -كما يقول الأمير- طلبته وشكرته ورقيته.
** وأضيف قصة أخرى رواها لي أحد الموظفين القريبين من سمو الأمير سلمان أ. صالح الجاسر يقول: (ذات مرة خالف أحد الأشخاص أحد أنظمة السير، وعندما أمسك به رجل المرور قال له: إني مرسل من الأمير سلمان لأمر عاجل ولكن رجل المرور عمل له مخالفة رغم ما قاله له، وعندما علم الأمير سلمان سعد بذلك وشكر رجل المرور الذي عمل ذلك).
تلك هي الشفافية والعدل والنزاهة التي تحدث عنها سموه وهو يطبقها.
** وفي هذه الكلمة تطرق سموه إلى (قصة التعميم) الذي أصدره مؤخراً والذي هو نموذج من نماذج إقرار الحق وإقامة العدل والمساواة بين الناس في هذا الوطن الذي يحكم بأوامر الله: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} (سورة النحل آية: 90).
هذا التعميم الإداري الموفق الذي جاء فيه ضمان حقوق الأفراد وحرياتهم وعدم اتخاذ أي إجراء يمس تلك الحقوق والحريات إلا في الحدود المقررة شرعاً أو نظاماً والذي جاء فيه ما نصه: (إنه لو صدر منه شخصياً أو من نائبه وأي مسؤول بالإمارة أو غيرها أي أمر يخالف الأنظمة فعلي المتلقي أن يعرض عن ذلك فوراً).. إنه تعميم يكتب بماء الماس.. فليس أكثر عدلاً من أن ينصف المرء الآخرين من نفسه.
تلك هي مبادئ ديننا.. وركائز دولتنا التي أقامها على أساسها الموحد الملك عبدالعزيز على الجميع في انسجام تام بين عدالة الدين والأخذ بأسباب التقدم في العصر.
** ومن هنا بادر الملك عبدالله -حفظه الله- عندما رفع إليه معالي رئيس هيئة الرقابة والتحقيق الدكتور صالح آل علي عن هذا التعميم الذي أصدره الأمير سلمان.
بادر خادم الحرمين الشريفين إلى التوجيه بالأخذ به وتطبيقه على كل المسؤولين وكل الوزارات والمؤسسات بالدولة.
إنني أتوق من كل مسؤول وموظف يخاف الله أن يطلع على كلمة سمو الأمير سلمان التي خرجت من قلبه ليفيد منها في أداء أمانته مهما كانت مسؤوليته كبيرة أو صغيرة، وليتذكر كل واحد كما قال سمو الأمير سلمان في عبارة بالغة التأثير: (إنه سوف يرحل عن هذه الدنيا ولن يسعد في الحياة الخالدة إلا من أتى الله بقلب سليم).
لقد لمست تأثر الحاضرين بهذه المناسبة بكلمة الأمير سلمان التي كان يصف فيها جزءاً من سيرة ورؤية وأسلوب عمله متبعاً ومنفذاً تعاليم دينه ومستجيباً لتعاليم قادة بلاده، ومتناغماً مع قيمه وسلوكه القويم إنساناً ومسؤولاً -حفظه الله-.
** لقد جاءت كلمات هذه المناسبة متماهية مع هذه المعاني كما أوضحت في حديثي عن كلمة سمو الأمير سلمان، فقد كانت الكلمة الثانية أو بالأحرى المحاضرة للشيخ صالح بن حميد موفقة ومركزة، وقد أصّل فيها من الناحية الشرعية لمبدأ النزاهة والشفافية مستنداً إلى نصوص القرآن والسنة ومستعرضاً نماذج من النزاهة وإقامة العدل في حضارتنا الإسلامية وموضحاً تبني ولاة الأمر في بلادنا لهذا المبدأ الذي يحقق الطمأنينة وإيصال الحق لكل الناس ومستشهداً بإحدى كلمات الملك عبدالله -حفظه الله- في افتتاحه للدورة الرابعة لمجلس الشورى.
** إنني -أخيراً- أدعو صاحب الجائزة سمو الأمير تركي بن عبد الله بن عبد الرحمن إلى.. أولاً: أن يكون لهذه الجائزة فرعان: فرع تمنح فيه الجائزة لمؤسسة أو وزارة تثبت نزاهتها وعدلها، والثانية تمنح لفرد أو مسؤول في القطاع العام أو الخاص طبَّق مبادئ الشفافية والنزاهة، وثانياً: توثيق هذه المناسبة بكل ما قدم بها من كلمات، وما صاحبها من عرض لفكرتها لتكون في متناول من يريدها وبخاصة أن هذه المناسبة أسست لأسلوب التحفيز على النزاهة والعدل، والكلمات التي ألقيت فيها ليست كلمات عادية، وجاءت مناسبة متميزة غير عادية، أقيمت من أجل هدف سام نبيل هي أحد أهم أسباب إشاعة العدل والمساواة بين الناس، وحفظ المال العام وقبل ذلك وبعده مراعاة الله في كل قول وعمل.
ختاماً حفظ الله هذا الوطن الذي قام على العدل وحكم بالعدل ورسَّخ في أنظمته وتطبيقاته مبادئ العدل القائم على التوجيه القرآني: {فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ} (سورة التوبة آية: 13).