امتدّت يدها بجملة من المظاريف كثيرة نحو مكتبي, وفيما هي تضعها بابتسامتها التي تحفني بها كلما جاءت بما يفرحني, تيقّنت أنّها على الرغم من عدم قدرتها التحدث بلغتي إلاّ أنّ معالمها تنمُّ بشيء.., سألتها ما الخبر , فأدركت مما قالت أنّها تحمل لي ما يسعدني.., وحين يصبح أمر فرحك وحزنك مشاعة أسبابه حتى بين العاملين بجوارك, البعيدين عن اهتمامك فذلك خيط تواصل يتعب الإنسان كثيراً كي ينسجه أو يستلّه من مكمنه..,
ومنذ أن اقتحمنا التواصل الإلكتروني خفّت مراسلاتنا الورقية وإنْ لم تنعدم بدليل ما يتكبّده موظفو البريد من عناء الفرز والإضافة بتوزيع المراسلات في صناديق أو إلى عناوين المعنيين بها.., سبع وعشرون رسالة حملتها العزيزة معي كانت كافية لتطويقي بزخّات الفرح..,
وأذكر أنّ للورق كانت رائحة تعمر أنفي كلما لهثت لبوابة البيت أنتظر أبي حين عودته يحمل لي الصحف وما كان يخصص هذه المهمة لنفسه لولا أنّه كان حفيا بفرحتي.., منذ ذاك بنيت بيني وبين الورق علاقة حميمة جداً, تعيدني لأول رسالة تسلّمتها من مراسل الجريدة عند الباب الخارجي للبيت وكنت حينها في الصف السادس الابتدائي وكانت من صحيفة داخلية تطالبني أن أراسلها بأخبار من مدينة الرياض, لكن المراسل ألحّ إليّ أن أحملها لأختي الكبرى في الداخل وذهب وهو يهز رأسه شكا فيما أقول له من أنّ هذه الرسالة لي وليست لأختي.., إنّ القارئ هو عصب الوريد النابض في حياة الكلمة وعند فوهة المحبرة.., هذا القارئ حين لا يأتيك فأنت في يباب تتلاطم فيك وحشة الوحدة وكأنك تنادي فلا من يجيبك غير صداك.., لذا يمثل عندي بريد قرّائي أولية وأولوية في علاقتي بالكتابة.., فذلك الكلام من فضلهم علينا, وما هو لنا فيه هو تشكيل نبضهم على الورق.., تلك مهمة صعبة ومسؤولية لكن العابثين بمقدرات القرّاء لا يفطنون..,
بدون أن أخفي عليكم التهمت الرسائل.., وأصابتني غصّة عريضة.. فكثير منها كانت ذات مواقيت.., تأخّرت عني فتأخّرت عن الوفاء لمضامينها.., ربما عليّ أن أكون يقظة بعد اليوم لانتداب من يتسلّمها من مكتب العزيز رئيس التحرير مبكراً.., سأناقش ما وردني منها بعد عودة من رحلة قد لا أتمكن فيها من حمل هذا الزخم الروي من مطر القرّاء النّدي.., وسيبقى هاجس الوفاء لكم بودٍّ يعمر ذاكرتي...