حتى وفي أشد الأوقات تأزماً، كانت البشرية تجسد فسحة من التفاهم وتحكم العقل والحكمة لإيجاد صيغ تجعل أبناء الكوكب الواحد قادرين على العيش على هذا الكوكب مكتفين بما يختزنه من خيرات، ولهذا فقد كانت البشرية في العصور الأولى والوسطى أكثر سعادة لأنها كانت تؤمن بالرسائل السماوية المنزلة، وتأخذ بالثقافات والفلسفات الفكرية والحضارية التي كانت تعمل على تهذيب الفعل الإنساني وتحريك النوازع الأخلاقية لمواجهة أطماع النفس البشرية وشرور وأفعال الطغاة الذين يذكرهم التاريخ كمثيري الحروب ومشعليها بسبب طغيان الرغبة والأطماع في الاستحواذ والسيطرة على النفوذ والمكاسب والخيرات.
ومع أن البشرية تهذبت ثقافاتها وتقدمت علمياً بفضل التقدم العلمي والحضاري، إلا أنها غرقت بالماديات وابتعدت عن الجوهر الحقيقي للحضارة الإنسانية نتيجة الاهتمام بتحقيق المكاسب المادية على حساب الأخلاق والاهتمامات الإنسانية.
وبهذا دخلت البشرية ما يمكن تسميته بالعالم المادي الذي لا يستند على أسس أخلاقية، بعد أن تناسى العالم هذه الأسس التي بشرت بها الرسائل السماوية والاجتهادات الفلسفية والفكرية والثقافية على مرور العصور.
وهكذا غابت قيم الحياة وثقافة السلام والأخلاق، وحلت معها الرغبة الجامحة لأنانية الذات حتى أصبح شعار (الغاية تبرر الوسيلة) هو الشعار الذي يحكم تصرفات البشر دولاً وأفراداً.
هذا الانحدار الأخلاقي والسلوكي جعل الخيرين يتساءلون عن الوجهة التي يسير إليها العالم، وهل يمكن تحسين وتعديل (البوصلة) التي يسير عليها العالم؟.
هذه البوصلة والتي إن لم يُحسن توجيهها بعد إصلاح التوجهات وأجندات السياسة والاقتصاد في العالم ماذا سيحل بالبشرية؟.. وما الذي يمكن عمله ليتمكن البشر بمختلف دياناتهم وثقافاتهم ومرجعياتهم العقدية من مواجهة هذا الانحدار الذي تسير إليه البشرية؟.
هذه الهموم والتساؤلات تراود الكثير من المفكرين والقادة، إلا أن القلة من يبحث عن حلول ومعالجات عملية توقف هذا الانحدار وتستنبط منهجاً ومسالك لصياغة ثقافة تنتشل الإنسان من حيرته وتحفز الكنوز المخبأة لدى النفس البشرية. وإذا كانت أسمى الأيدلوجيات والأفكار الإنسانية التي لاقت رواجاً وتقبلاً في عصور وأزمان مختلفة عاشتها البشرية، بدءاً من عصر الأنوار إلى الوقت المعاصر، كالنظرية الماركسية والاشتراكية والرأسمالية، وحتى الأفكار الإغريقية المبنية على الديمقراطية التي برغم ما حظيت به من تجييش للأتباع وامتداد أعمى على مستوى القناعة والتأثير فإنها لم تصل تلك التجريدات العليا التي تتجاوز أطر الأيدلوجية والأطر الحزبية الفضاءات الإنسانية ولهذا ولكي تكون المعالجة فعالة ومجدية فكان لا بد من انتهاج أسلوب يشرك الجميع في صياغة (الإنقاذ) إن صح التعبير بالاستفادة من كل ما تختزنه الرسل السماوية والثقافات الإنسانية من أديان وحضارات لتوظيفها بكل أبعادها الفكرية لتهذيب سلوك الإنسان والمجتمعات والدول والنخب القائدة وهذا ما توصل إليه خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز بتوظيف واستثمار الحوار الحضاري بين مختلف أتباع الأديان والثقافات حتى يمكن التوصل إلى صياغة عصر جديد من التفاهم من خلال إشاعة ثقافة السلام عبر الحوار الذي يصل من خلال منتدى نيويورك إلى محطته الثالثة بعد مكة المكرمة ومدريد.
jaser@al-jazirah.com.sa