لم يكن فوز أوباما في الانتخابات الرئاسية مفاجئا لكثير من المراقبين السياسيين والاقتصاديين وأباطرة المال والأعمال في الوول ستريت، بل أنه كان من المنطق أن يفوز فهو كما يراه الكثير من المراقبين المحايدين (رجل التغيير) و(رجل المرحلة). وليسمح لي الرئيس المنتخب باستعارة مقولته الشهيرة في خطاب النصر (لا يمكن لوول ستريت أن تزدهر فيما الآخرون يعانون) أبان تعليقه حول الأزمة المالية التي تعصف باقتصاد بلاده. وبالتأكيد لقد تعرض أباطرة المال والأعمال في أمريكا وأوروبا لمغص (كلوي) حاد ليلة الخامس من نوفمبر بعد أن صال وجال هؤلاء في أسواق الأوراق المالية الأمريكية والعالمية لسنوات وسنوات جمعوا خلالها المليارات من الدولارات وأفقروا المليارات من البشر، فمن استغلال لسياسة الدولار الضعيف والتي أثبتت فشلها خلال سنوات تطبيقها، ومن رفع غير مبرر لأسعار الذهب حتى قاربت مستويات الألف دولار للأونصة، ومن مضاربات محمومة على أسعار النفط في السنتين الأخيرتين حتى قفزت إلى مستويات تاريخية غير مسبوقة، وأخيرا السقوط المدوي لإمبراطورية الرهن العقاري والتي تضخمت في السنوات الأخيرة مع تحول ما يعرف بالأوراق المالية المدعومة بالعقارات (MBSصs) وغيرها من الأوراق المالية الهجينة كال (SIVصs) و(CDOصs) إلى سوق استثمارية ضخمة ومعقدة جدا حتى أن أسطورة الاقتصاد في العصر الحديث وحاكم البنك الاحتياطي الفيدرالي السابق آلان جرينسبان لم يكن مستوعباً لآلية عمل أسواق تلك المنتجات الاستثمارية المهجنة حتى يتمكن من ضبطها وتقييدها قبل أن تتسبب في حدوث ما يعتقد بأنه اكبر أزمة مالية يواجهها العالم الحديث منذ الكساد العظيم في العام 1929م. ومن المعلوم أن الاقتصادات المتطورة لا تحتاج للتدخلات الحكومية المباشرة لتوجيهها طالما أن الأسواق على المستوى الجزئي والتي يتكون منها الاقتصاد الكلي تعمل وفقا لآلية العرض والطلب، وبالتالي تحقق توازنا ذاتيا ومستقرا ينعكس ايجابيا على أداء الاقتصاد المحلي، ولكن ذلك لم يحدث في أسواق الاقتصاد الأمريكي، حيث كان كثير من تلك الأسواق بعيدة عن تحقيق التوازن المطلوب-لأسباب خاصة بكل منها- وخصوصا في الأسواق التي لها ارتباط مباشر بالقطاع المالي كسوق الرهن العقاري وسوق التمويل العقاري، ولم يكن في الحكومة الأمريكية من الاقتصاديين من حذر من مغبة التأثيرات السلبية لما كان يحدث في حينه، رغم قوة الأصوات (الاقتصادية) من خارج الإدارة الأمريكية والتي كانت تنادي بضرورة تدخل الحكومة عن طريق سن حزمة من التشريعات الضرورية لتعديل مسار الأسواق التي كانت تعمل خارج إطار التوازن المطلوب، وعلى رأس تلك الأصوات يأتي صوت الفائز مؤخرا بجائزة نوبل للاقتصاد والكاتب بجريدة النيويورك تايمز أستاذ الاقتصاد بول كروجمان. كل ذلك يفسر لنا لماذا لم تكن الوول ستريت سعيدة بفوز أوباما بالانتخابات الأمريكية والتي وجه لها أوباما رسالة واضحة في خطاب النصر بقوله (نحن نزدهر معا أو ننهار معاً كأمة واحدة) وهي رسالة واضحة لأباطرة المال من الرأسماليين الذين لا يهمهم سوى تحقيق الثروات لمؤسساتهم المالية على حساب سلامة الاقتصاد الأمريكي، وما حكاية الرحلة السياحية الفارهة التي قام بها كبار المديرين التنفيذيين في بنك ليمان براذرز على شواطئ لوس انجليس في الوقت الذي كانت فيه الحكومة الأمريكية تناقش خطة تدخل لإنقاذ البنك إلا مثالا صارخا على اللامبالاة التي كان يتمتع بها أباطرة المال والأعمال. ويعلم الرئيس المنتخب أنه أمام تحد اقتصادي كبير يتمثل بصفة أساسية في تنفيذ خطة الإنقاذ ذات ال 700 مليار دولار، وكذلك في الحاجة الماسة لسن تشريعات جديدة وأكثر صرامة لإعادة تنظيم القطاع المالي الأمريكي لكي لا يتعرض الاقتصاد الأمريكي مستقبلا لأزمة مماثلة، خصوصا بعد اعتراف آلان جرينسبان بأن القطاع المالي الأمريكي لم يكن محصنا بما فيه الكفاية وان التشريعات القائمة كانت قاصرة عن منع حدوث أزمة كتلك التي يتعرض لها العالم حاليا. أوباما كغيره من الرؤساء الديموقراطيين يعتبرون في نظر الاقتصاديين (أصدقاء) للاقتصاد ولا يتمتعون بعلاقات جيدة مع أصحاب الثروات، حيث يعتقد هؤلاء أن الفترة التي حكم فيها بيل كلينتون الولايات المتحدة تعتبر من أفضل فترات الرخاء الاقتصادية في تاريخ أمريكا الحديث حيث كان أداء الاقتصاد الأمريكي في قمته خلال تلك الحقبة الزمنية، وعلى النقيض تماما تعتبر فترة الرئيس الأمريكي الجمهوري الحالي جورج دبليو بوش من أصعب الفترات الاقتصادية في تاريخ أمريكا الحديث حيث عانى الاقتصاد المحلي من ركود اقتصادي طويل قبل أن يدلف إلى نفق الكساد المظلم خلال السنتين الأخيرتين، حيث لم تكن السياسات الاقتصادية للحكومة الجمهورية الحالية ناجعة بما فيه الكفاية، وقد يعزى السبب في ذلك إلى أن الاقتصاد لم يكن على رأس أولويات الحكومة الحالية والتي كانت موجهة وبدرجة كبيرة إلى محاربة الإرهاب وتعزيز الأمن الأمريكي الداخلي. وبالتمعن قليلا في قائمة الأسماء الاقتصادية المرشحة لدخول إدارة أوباما كمسئولين أو كمستشارين اقتصاديين يدرك المرء أن الرئيس الأمريكي المنتخب في طريقه لتكرار النهج الذي سار عليه الرئيس الديموقراطي السابق بيل كلينتون. فأسماء مثل لورنس سومرز وهو وزير خزانة سابق، وبول فولكر وهو رئيس سابق للاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، وتيموثي جيثنر وهو رئيس البنك الاحتياطي الفيدرالي لولاية نيويورك، وأستاذ الاقتصاد أوستن جولسبي في جامعة شيكاغو الشهيرة والتي فاز كثير من أساتذتها بجائزة نوبل للاقتصاد، ناهيك عن الانطباع الإيجابي الذي يحمله أوباما شخصيا لإمبراطور الاستثمار الأمريكي وأغنى رجل في العالم وارن بوفيت والذي يعتبر من المنظرين الاقتصاديين والذي يحظى باحترام وتقدير المجتمع الاقتصادي المحلي والدولي. جميع هؤلاء لديهم التأهيل العلمي والخبرة الاقتصادية والعملية الضرورية لتكوين فريق اقتصادي فعال ومؤثر لانتشال الاقتصاد الأمريكي من نفق الكساد المظلم الذي يقبع فيه حالياً، رغم غضب الوول ستريت ورجالها ممن تسببوا في تعريض الاقتصاد الأمريكي لانهيار وشيك لولا رحمة الله، ومن ثم وقوف جميع دول المجموعة الأوروبية في خندق واحد لمنع انهيار الاقتصاد الأمريكي، ومن ثم اقتصاداتها بالتبعية. وستكون الخطوة الأهم في ظني هي في تواجد أوباما شخصيا أو فريقه الاقتصادي ومستشاريه في قمة (العشرين) القادمة والتي ستنعقد في الخامس عشر من هذا الشهر في واشنطن، حينها يمكننا القول إن أوباما قد بدأ فعلا العمل السياسي والاقتصادي الجاد وأنه عازم على عودة قطار الاقتصاد الأمريكي إلى جادة الصواب بأسرع وقت ممكن وبعيداً عن نصائح وتدخلات رجال المال والأعمال من أباطرة الوول ستريت والذين لا يحظى كثير منهم بمحبة الحزب الديموقراطي..
أستاذ العلوم الاقتصادية والمالية المشارك بجامعة الملك سعود
zalhosan@ksu.edu.sa