تأتي القصص والأمثال الشعبية معبرة عن واقع الحال حيث تُساق للعظة والعبرة في ظل غياب القدرة على التعبير أو العجز عن صياغة العبارات بسبب تردي الوضع التعليمي في المجتمعات البدائية، يسوق الكبار هذه الروايات البسيطة والسهلة الفهم لأجل تعليم الأجيال الناشئة السلوك الحميد ونبذ التصرفات المشينة التي قد يكتسبونها من أقرانهم. من القصص التي كان يرددها كبار السن ويعلّمونها أبناءهم بهدف توعيتهم بأن يراقبوا سلوكهم وأنهم مهما اعتقدوا أن الناس لا يعلمون شيئاً عن سلوكهم فهم مخطئون على غرار قول الشاعر: |
إذا خلوت الدهر يوماً فلا تقل |
خلوت ولكن قل عليّ رقيب |
هي قصة ذلك الفتى الذي كان يذهب إلى الموائد ثم يعود لوالدته ليروي لها مغامراته. تعود تفاصيل القصة إلى أن هناك شاباً يافعاً دأبت والدته على تنشئته وتعليمه من خلال إسداء النصح والتوجيه وأن يراقب سلوكه في حضرة الرجال حينما يخالط من يكبره في السن في المجالس والمناسبات العامة، وكان كلما ذهب لأحد تلك الاجتماعات وعاد إلى المنزل تقوم والدته بسؤاله عما حدث وكيف تصرف في المواقف المختلفة وما هي ردود أفعال الحضور إزاء تلك التصرفات. عاد الابن ذات مساء وفاتح والدته بمغامراته بأنه أصبح حصيفاً ذكياً يستطيع القيام بتصرفات دون أن يلفت انتباه بقية الحضور حيث ذكر بأنه استطاع أن يغافل البقية ويحصل على حظ وفير من أطايب اللحم دون أن يشعر به أحد، فسألته والدته كيف استطاع ذلك فأجاب بأنني أغمس يدي في الثريد ثم أمد يدي وأقطع اللحم دون أن يشعر بي أحد فقالت والدته يا بني إذا لم يخاطبوك فإن ذلك لا يعني على الإطلاق أنهم لا يعلمون وعليك في المرات القادمة أن تراقب نظراتهم إليك لتعلم بأنني محقّة، وعندما ذهب الفتى إلى مناسبة أخرى اكتشف حقيقة الأمر بأن الحضور على وعي وإدراك تام بما يجري حولهم لا كما يظن واكتشف حينها جهله بواقع ما يجري. لعل ما يُستفاد من تلك القصة هي أن أعظم خطأ يرتكبه أي شخص هو عندما يعتقد بأنه يتصرف بذكاء خارق ويفترض جهل وغباء الآخرين، من هنا تأتي المقولة الشهيرة للرئيس الأمريكي الأسبق إبراهم لينكن (تستطيع خداع بعض الناس طوال الوقت، وتستطيع كذلك خداع جميع الناس لبعض الوقت، لكنك لا تستطيع إطلاقاً خداع جميع الناس طوال الوقت) لأنه لابد أن يعي بعض الناس في وقت ما ويكتشفوا الحقيقة الكاملة مهما طال الزمن. لذا فإن انعدام الشفافية التي تشهدها العديد من الدول النامية لم تعد مقبولة خصوصاً في ظل وعي النخب المثقفة بسبب الثورة العلمية والتكنولوجية التي حولت العالم لقرية كونية تبدو صغيرة مهما بعدت أرجاؤها، ففي الوقت الذي تتناقل فيه وسائل الإعلام المحلية أخبار مجتزأة تنشر وسائل الإعلام العالمية التفاصيل الدقيقة لبعض الدول النامية، والمتأثر الأخير في كل ذلك هو مصداقية وسائل الإعلام المحلية التي لم تعد تحظى بمتابعين. |
تقع العديد من الدول النامية في ذيل القائمة في التقارير السنوية المنشورة من قبل منظمة الشفافية العالمية لأنها تعتقد بأن الإفصاح عن بعض المعلومات الدقيقة قد يضر بمصالحها الإستراتيجية على الرغم من علمها التام بمعرفة منظمات دولية ودول أجنبية بجميع تلك المعلومات، قد لا يرى أهمية لذلك بحجة انعدام الوعي الشعبي لدى المواطنين وبالتالي فلا مبرر للإفصاح، إلا أن هذه الحجة لا يمكن قبولها لسببين. العامل الأول أن وعي المجتمع يتغير من وقت لآخر ولا يمكن افتراض ثباته في حقبة زمنية معينة لاسيما في ظل الانفتاح الإعلامي والممارسات الشفافة وحرية الصحافة حيث أصبح الوعي ظاهرة عالمية لم تعد مقصورة على قطر أو إقليم معين؛ الأمر الثاني أن نشر الوعي هو أحد أهم الأولويات من خلال نشر المعلومات الصحيحة ودفع الأفراد نحو البحث عن الحقيقة ومن ثم تحقيق الرقابة الشعبية والمجتمعية على نشاطات الإدارات الحكومية. |
هناك دور مهم وفعال للجمعيات الرقابية الخاصة (Watchdog Groups) التي تأخذ شكل تنظيمات أهلية تجمع نخباً واعية ومثقفة مهمتها رعاية المصالح الوطنية العليا من خلال تقصي الحقائق ونشر المعلومات الدقيقة ومخاطبة المسئولين مما يخضع كبار الموظفين البيروقراطيين للمراقبة وللمساءلة، وتحرص الدول المتقدمة على وجود مثل جماعات الرقابة تلك نظراً لما تقدمه من خدمات جليلة للأجهزة الحكومية من خلال التأكيد على مبدأ الشفافية والحرص على الصالح العام. |
إن التراث الإسلامي فيه شواهد كثيرة تشير إلى الحرص على تنمية وعي المجتمع ليكون هو السد المنيع في وجه من أراد الإضرار بالمصالح العليا من خلال استغلال الصلاحيات الممنوحة له في خدمة الأمة، فهذا الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه يطالب الناس بتقويم اعوجاجه وعندما يجد الإجابة الشافية يقول مقولته الشهيرة (الحمد لله الذي جعل في هذه الأمة من يقوّم عمر). |
* أستاذ الاقتصاد المساعد- معهد الدراسات الدبلوماسية |
mqahtani@ids.gov.sa |
|