الصفوف الأولى، البلاد المتقدمة، القوى، الكبرى، الدول العظمى، إلى آخر التصنيفات التي نظهر فيها عادة بأننا عكس كل ما سبق ذكره، ومع هذا النعت لنا قمنا نحن بالتقاط الفكرة، وتقمص الدور وبدأنا نصنف كل شيء حولنا في سياق هذا المفهوم، ففي المدارس لدينا هناك الصفوف الأولى، والعليا، والدنيا والكبار والصغار، وما إلى ذلك، في مدرسة واحدة، وهو تكريس لمفهوم طابوري قديم لا يزال نظامنا التعليمي يقتات منه.
والاقتصاد ليس أحسن حالاً من التربية والتعليم إذ إن هناك طابورية وفئوية مؤذية، فالقائمون على أمر الاقتصاد لا يتورعون عن قول إننا خارج منظومة البلاد المتقدمة أي أننا من مجموعة البلاد النامية أو (النائمة)، فهؤلاء يزعمون أن الضرب صفحاً عن مشاكل سوق الأسهم على وجه التحديد هو من قبيل عدم نضجنا ووعينا، فعلينا ألا نصدق الآراء التي تؤكد وتشير إلى أننا في الطريق الخطأ حينما نطالب بمزيد من الشفافية، فمن ينهب سوق الأسهم هذه الأيام حتماً هو من فعلها قبل عامين.
ولكي نعرف أننا أمة عربية في آخر الصف أو الفصل بمعنى أننا في الساحة الخلفية أو في شارع الحياة الهامشي يجدر بنا أن نتأمل رأي المسؤول الاقتصادي أو المالي حينما يصف الحقيقة بأنها (كلام جرايد)، أو أحاديث صحف لا تقدم أو تؤخر!.
حتى العالم من حولنا بات ينظر إلينا وكأننا من كوكب آخر فهو لا يتفاعل معنا إلا بمقدار ما ندفع له من مال أو ما يمكن لنا أن نشارك فيه من قبيل المجاملة واللهاث خلف فرضيات النمو والتقدم والتطور والوقوف بجوار الدول الكبار أو العظمى صناعياً لمجرد الوقوف والتقاط الصور التذكارية المضحكة على مآل حالنا في السوق العالمي.
أما فيما يتعلق بمصطلح الدول العظمى فليس أعظم من مكة المكرمة والمدينة المنورة، فلماذا لا نجعل منهما شاهداً على عظمة وقوة مكانتنا كعرب؟.. ونقيم من خلال هذا الإرث الكبير علاقات مميزة مع الجميع بدلاً من الإذعان لفكرة أننا خلقنا من أجل المال والشره والتجارة وحب التمظهر، فكم جلدنا بمقولات تشير إلى أننا خارج المعادلة الحضارية.
فما يلفت أيضاً هو أن تتضارب المقولات، وتشابك المعلومات حول الشأن الاقتصادي لدينا، وأسوأ ما في الأمر هو ما يحل بسوق الأسهم -كما أسلفنا- فما هذا إلا وجه آخر من وجوه الخذلان حيث لا تجد من يُقرّ بالخطأ أو يعترف بالتقصير، بل نحمل غيرنا كل نقيصة اقترفناها في مضمار تجاربنا، فكل مسؤول يرحّل تركته الإدارية المليئة بالأخطاء والتجاوزات لمن سيأتي بعده، فليس هناك أي شجاعة في تحمل المسؤوليات في ظل هذا التعاظم للأخطاء التي بتنا نتعاطاها كواقع يومي.
السوق والتجارة لم تعد هي ذلك التجمع العفوي للبائعين والمشترين، إنما بات كياناً كبيراً يجدر بنا جميعاً أن نسهم في بنائه، وتقديم لوحة مشرقة تعكس حبنا للوطن وللعمل الجاد، لا أن نكون مجرد راغبين في المال حتى الهوس، فمن باب أولى أن نكاشف ذواتنا ونعترف بتقصيرنا، ونحاول التعلم من الأخطاء من أجل تحقيق الأهداف الإنسانية السامية لبناء الوطن وترسيخ مفهوم النجاح في ذواكر الأجيال التي لم تعد تعرف أين نقف الآن.
hrbda2000@hotmail.com