لقد كانت النقود دوماً سبباً في تضليل الجماهير... لقد تحول معظم الدول فجأة إلى مقامر مدمن رهن مستقبله ووجوده بناء على ما هو مكتوب في صك... أيها البشر لقد كان من الأمور الطيبة دائماً أن نفكر كقطعان.
أن الناس يصابون بالجنون عندما يصبحون جزءاً من القطيع، وأنهم يستردون أحاسيسهم وعقولهم ببطء عندما ينفصلون واحداً بعد واحد عنها! تلك ليس مقاطع من الكتاب المشهور (سيكولوجية الجماهير) لجوستاف لوبون بل من كتاب ظهر قبله بعقود - وقبل بيان كارل ماركس - إنه كتاب تشارلز ماكاي نقلاً عن توماس فريدمان، وهو قصة كلاسيكية عن الأزمات المالية عنوانها (الأوهام الشعبية غير العادية وجنون الجماهير) ظهرت طبعته الأولى في لندن عام 1841م.. إذن، القصة ليست جديدة!! لم يدر في خلدي قبل بضعة أيام أنني سأكون واحداً من أكثر أفراد القطيع غفالة، رغم أني أنبّه باستمرار عن سيكولوجية وثقافة القطيع في الأفكار والسلوك في كثير من مقالاتي.. ورغم أني لست اقتصادياً، ولكن كمبدأ عام ظللت صامداً رافضاً الانجرار لسيكولوجية القطيع وأوهام سوق الأسهم على مدى سنوات استثماري في هذا السوق.. 13 عاماً لم ألتفت لما أسميه أوهاماً نفسية صعوداً أو هبوطاً.. لم ألتفت لنصائح من أصبحوا خبراء ولا الأقرباء والأصدقاء وزملاء العمل، طالما أن ما يقولونه لا يقنعني.. لم أبع غير ما تستلزمه الرؤية الخاصة في حياتي وليس حركة السوق الوهمية ولا توجهات الجموع.. وبعد كل تغير حاد في السوق، كانت خاتمة مواقفي دائما: الربح المعقول، كان نجاحاً استثمارياً معتدلاً.. لم يغرِني الارتفاع المجنون ولم يخِفني الهبوط الأكثر جنوناً..
رغم كل ذلك إذا بي أقع في أعمق حفرة من حفر تلك الأوهام في أسوأ توقيت، وأبيع في أسوأ يوم في تاريخ الأسهم، بل في أسوأ ساعة في تاريخ المؤشر.. لقد انتصر الوهم عليّ عندما فكرت كالقطيع!!
وحين نستيقظ من الوهم، يجب ألا نقع في وهم آخر ونهوّل الأمر.. فمنَّا من قال إن الرأسمالية سقطت لأن كلها ظلم وزيف ونظام فاشل.. وهناك من طالب باستبدال الرأسمالية بالاشتراكية كما في فنزويلا وبوليفيا وبعض بلدان أمريكا اللاتينية.. ومنا من قال بأن الرأسمالية الأمريكية تستنجد بالاشتراكية بعد التدخلات والتأميمات لمعالجة الأزمة المالية.. بل إن نوريل روبيني، مسؤول الخزانة أثناء إدارة الرئيس كلينتون قال متهكماً، عن بلاده: (مرحباً بكم في اتحاد الجمهوريات الاشتراكية الأمريكية). وطفق كاتب هذه السطور يتساءل في أكثر من مقالة عن إمكانية أن نشهد سقوط الرأسمالية أو على الأقل سقوط الأيديولوجيا الرأسمالية، لكن الرأسماليين يقولون إن كل ذلك مجرد أوهام وجهل فاضح بالرأسمالية وتاريخها وطريقة أدائها.. كيف؟
النظام الرأسمالي الذي نشأ في القرن التاسع عشر، في بعض البلدان الغربية (بريطانيا، فرنسا، أمريكا، ألمانيا) أظهر خاصية تميزه عن الأنظمة التي سبقته، وهي تخطّيه لحوادث مفاجئة، عنيفة أحياناً، قد تظهر (مؤقتة) وتتكرر في شكل شبه دوري، مما حبذ فكرة اعتبار ظاهرة (الأزمات الاقتصادية) ملازمة لنشاط النظام الرأسمالي، وحتى ملازمة لوجوده، ومندمجة مع الحركة الدورية المتأصلة في اقتصاد المؤسسات والأسواق الحرة (موريس فلامان وجان سنجر)..
فبعد كل أزمة منذ مائتي عام، كان النظام الرأسمالي يمر بالدورة التقليدية (انتعاش - ركود - انتعاش)، ويثبّت أقدامه بعدها بشكل أفضل، لذا يرى البعض أن تلك الأزمات تقوي النظام الرأسمالي، لأن البنوك والشركات الفاشلة أو التي لا تعمل كما ينبغي تسقط ويبقى الأفضل..
كتب شالرز ويبلوزسز (نقلا عن مصطفى نور الدين): هذا وقت اختفاء البنوك التي ارتكبت أخطاء هائلة وحمقاء منذ 2003م وتسترت على ممارساتها المريبة ولم تعترف بأخطائها وتصوب سياساتها.
فهذه البنوك راهنت على استمرارية انخفاض أثمان العقارات ومنحت قروضاً هائلة لعدد كبير من المواطنين المتعثرين، وانقلب الوضع على البنوك بعدم قدرة المقترضين على السداد فبدأت المصاعب في الظهور وواكبها عدم الإقرار بخطورة العواقب تحت تأثير الفوائد العظيمة التي حققتها وأصابت هذه البنوك بنوع من العمى.. إن البنوك توهمت أن الأزمة ستمر وتأتي الأيام الوردية فكذبها الواقع.
ومن ناحية أخرى لم تمارس جهات الرقابة المسؤولة عن النشاط المصرفي دورها بجدية إذ إن المراقبين صرحوا بأن الأمان يسود والبنوك صلبة في الوقت الذي كانوا يعرفون فيه أن المصارف تخفي ممارستها في بند لا يخضع للمراقبة ويسمى (خارج الخطة أو الموازنة). ولم تمارس الحكومات مسؤوليتها في الرقابة وبالتالي توفير الحماية للمواطنين من دافعي الضرائب.
وفي تصور ويبلوزسز أن الرأسمالية تجدد نفسها عبر الأزمات وسوف تحل بنوك جديدة جدية محل التي أفلست وبعد فترة تعاود هي أيضاً ارتكاب أخطاء وتسقط بدورها وهلم جرا.
ويستمر دفاع الرأسماليين بأن المؤسسات المالية التي لم تلتزم بالأساسيات، أي التي لم تركز بكيف تسير الأمور أو بأي طريقة، بل ركزت بكم تجني من الأرباح.. مثلا لم تركز بأصول القروض، الذي يحتفظ فيه المقرض والمقترض بنوع من المسؤولية، ولم تهتم بتقييم قدرة الشخص الذي اقترض المال على السداد، ولا بتقييم المشروع تجارياً والتخصص والخبرة.. إلخ، هذه المؤسسات هي من أهم أسباب الأزمة، وأن سقوطها هو جزء من التصحيح..
أما مسألة التدخل الحكومي والتأميمات التي يقول البعض إنها جعلت الاقتصاد مقيداً بالحكومة أو اشتراكياً، وجعل الرأسمالية تستنجد بالاشتراكية، فيرد الرأسماليون بأن هذا النوع من التدخّل كان أيضا مستمراً ودورياً وهو وجه من أوجه رأسمالية الدولة.. ووفقاً للدراسة التي أجراها عالما الاقتصاد الدوليان (وينفريد رويجروك) و(روب فان تولدر)، (نقلا عن تشومسكي) فإنه منذ 15 عاماً، كان هناك 20 شركة على الأقل من بين الشركات المدرجة في قائمة (فورتشن 100) على وشك الانهيار، لو لم تنقذها حكوماتها، والعديد من الشركات الباقية استفادت كثيراً بطلبها من الحكومات (تأميم خسائرها).
ويستنتج العالمان أنّ هذا التدخّل الحكومي (كان القاعدة لا الاستثناء على مرّ القرنين الماضيين).
لكن يرد منتقدو النظام الرأسمالي بأن التدخل الحكومي هذه المرة قد تجاوز كل درجات التدخل السابقة.. ويرد الرأسماليون بأن السبب في ذلك يعود إلى الاستفادة من الأزمات السابقة، مما تطلب هذا النوع من التدخل الضخم، وليس في ذلك ما يخيف، فهو مؤقت وطارئ، ثم يعود السوق حراً.. فمثلاً الأزمة العظمى عام 1929م جعلت اللبرالية المالية تؤمن بضرورة تدخل الدولة مؤقتاً، رغم أن تلك ليست أيديولوجيتها..
ولا يزال في جعبة منتقدي الرأسمالية الكثير، كما أن في جعبة المدافعين عنها الكثير، نكملها في المقالة القادمة..
alhebib@yahoo.com