سألت إحدى العاملات عن سبب غيابها عن العمل في اليوم الماضي، فكان جوابها مايلي: (سمعت بأن أحد الأثرياء - سيقسم - أي يوزع أموالا فذهبت أنا وجارتي إلى أمام بوابة منزله من الساعة 2 فجرا إلى الساعة الحادية عشرة ظهرا من اليوم التالي, واضطررت إلى التغيب عن العمل!! المفارقة هنا أنها لم تنل شيئا).
هذا المشهد الكاريكتوري الذي لم أنقله بجميع تفاصيله التي تقترب من الكوميديا السوداء من فم العاملة البسيطة، أرجعني إلى مشهد سبق وأن رأيته على الطريق السريع في إحدى ضواحي الرياض عندما لمحنا ازدحام وصفوف طويلة من البشر, مع غيمة هائلة من غبار السيارات تغطي المكان، وعندما استفسرنا من باب الفضول والاستغراب عرفنا أن أحد الأثرياء أيضا (بيقسم)!
المشهد على مأساويته لكن لا أعتقد بأنه خارج عن النسيج الثقافي للمكان والبيئة، والتاريخ عامر بالصور والمشاهد التي تدور حول نفس القضية، حيث الفقراء والمحتاجون يلتفون حول أبواب الأغنياء أملا في الهبات والعطايا، بل إن الأمر لا يقتصر على الفقراء بل إنه يتصعد حتى يصل إلى الشعراء، وما خلد شاعر إلا بعد أن انطلق من بلاط الخليفة، وبعد أن امتلأ فمه (بالدر والدنانير) وملأ هو بلاط الخليفة بقصائد المداهنة والتزلف.
وأنا هنا لا أود أن أعرج على قضية الشعراء فتلك قضية أخرى، لكن ما أود مناقشته تحديدا هو العمل الإنساني والاجتماعي الذي بات من المحتم أن يضبط وينظم وفق آلية عمل تتوافق مع متطلبات وظروف المدينة الحديثة، وبشكل لا ينتقص من إنسانية متلقي الصدقات أو يهين كرامتهم وهم يدفقون ماء وجوههم على الأبواب والعتبات.
أعتقد أنه بات من الواجب على الجهات المسؤولة أن تقارب هذا الموضوع بشكل عملي توعوي، وقادر على أخذ الأموال والهبات ضمن مساراتها المطلوبة وضمن القنوات والطرق التي من الممكن خلالها أن توزع على المحتاجين فعلا وتسد نقص حاجة حقيقية وليست مفتعلة أو خاضعة لأحلام الجشعين ونهّازي الفرص.
مشهد التجمهر أمام الأبواب والعتبات، وإن كان يبرز طبيعة العلائق الاجتماعية المتينة القائمة في المجتمع من ناحية، إلا أنه من ناحية أخرى يتقاطع مع حضارية العمل الخيري وصنوفه وأنواعه ودروبه وأبوابه، والتي تطورت في الفترات الأخيرة بصورة كبيرة حتى باتت تمر عبر التقنيات والأجهزة الحديثة.
مشهد التسول والاستعطاء بالتأكيد مشهد مؤذٍ، ومشهد تتقلص فيه إنسانية الأفراد وتهدر كرامتهم، وتكسر عزة نفس تتأبى على الذل والمهانة.