الموت اليقين هو وحده الذي لا نرقبه، بل نَفِرُّ منه، وإشكاليته أنه يلاقي ولا يلحق، والمؤمل أن تَفُوتَ اللاحق، ولكن الملاقي لا يدع لك فرصة الخلوص، وكل الأعزاء وذوو الفضل نفاجأ بموتهم، وكأننا لم نرقبه، وكلما قضى منهم من نحبه، أقبل بعضنا على بعض يتلاومون، كيف مات؟ وكان بالإمكان أن نراه وأن نزوره، وأن نجلس معه، نواسيه أو نأسوه أو نتوجع، هكذا كنت عندما علمت بموت أستاذي الأستاذ عبدالله بن إبراهيم الحسون، الذي كادت تنقطع أخباره لولا لقاءات عابرة أقبّل فيها رأسه ثم أمضي لشأني، لقد هاتفني زملاء الدراسة الابتدائية لتبادل التعازي بأستاذ عرفناه قبل ثلاث وخمسين سنة، وعرفنا فيه الجدَّ والإخلاص والمتابعة وشيئاً من القسوة الضرورية: (ومن يك راحماً فليقس أحياناً على من يرحم)، والفقيد الذي لحق بكوكبة من معلمينا يتمتع بأخلاقيات فاضلة، يتجدد معها ذكره كلما تطاول عليها الزمن ومن ذا الذي يتنكر أو يُنكر أفضال معلميه، وفي الآثار: (من علّمني حرفاً صرت له عبداً) ورجل مثل الفقيد الفذ علّمنا أكثر من حرف، فلقد كان قدوة في قوَّته وانتظامه ومتابعته وجدِّه واجتهاده، وحمله همّ التربية قبل التعليم، عرفته أول ما عرفته يوم أن دخل علينا الفصل في عنفوان شبابه عام 1372هـ أي قبل سبع وخمسين سنة، وكنت يومها طالباً في السنة الرابعة الابتدائية في المدرسة العزيزية ببريدة لتدريس المطالعة، وكنت يومها لا أجيد القراءة، ضعفاً وحياءً وخوفاً من حدته وقَسْوةِ سخريته حتى لقد كدت أترك الدراسة بسبب ما ألاقيه من عنف وتأنيب، ولكنني اخترت التحدي، وضاعفت الجهد وتجاوزت ذلك المنعطف العصيب. لقد انخرط في سلك التعليم عام 1368هـ حين عيِّن مدرساً ابتدائياً بمحافظة (المذنب) وبرزت مواهبه الإدارية الملفتة للنظر حين تولَّى إدارة المدرسة الفيصلية (ببريدة) عام 1379هـ وإدارة المدرسة المتوسطة (ببريدة) عام 1385هـ، ولما كانت طموحاته أكبر من ذلك شدَّ الرحال إلى المنطقة الشرقية ليكون مساعداً لمدير تعليم البنات، فمديراً للتعليم الأهلي بالرئاسة العامة لتعليم البنات، ولم أكن على تواصل معه أثناء تنقلاته القيادية إلا حين يعود إلى مراتع صباه ويلتقي بزملائه وطلابه، ولا سيما أنه كان من الشباب الواعي الذي يسعى في حاجات بلاده، ومشاريعها، وفي كهولته ترك الأعمال الحكومية وانخرط في سلك رجال الأعمال، وتعددت اهتماماته وتوسعت مسؤولياته وكنا نسمع عنه ولا نراه، ولكنه كان حاضراً معنا لما يحمله من هموم تتعلّق بمصالح البلاد والعباد، غير أن الأمراض المتلاحقة لم تمهله، فأطلق العنان لأولاده ليتفرّغ للعبادة والصبر والاحتساب، وكلما لقيته رأيت فيه العبد الصابر الذاكر المحتسب، حتى وافاه أجله يوم الأحد لأربعة عشر يوماً خلون من رمضان المبارك من هذا العام، ففقدنا بفقده أستاذاً ناصحاً ومواطناً مخلصاً أسهم في عدة مجالات إنسانية واجتماعية. لقد حدثني عمّا أجهله عنه أستاذي محمد بن عثمان البشر زميله ورفيق دربه أمد الله في عمره، وحديث مثله عنه يوحي بالفراغ الذي تركه، رحمه الله رحمةً واسعة وجعل في عقبه الخلف الصالح الذي يسد المكان الذي سده.