قبل فترة ليست بالبعيدة أعيد ترتيب عجائب الدنيا، فأضيف لها بعض المدن منها البتراء في الأردن، ومن المعروف أن عجائب الدنيا المعروفة تضم سور الصين العظيم، وتاج محل في الصين، وحدائق بابل المعلقة في العراق، وأهرامات مصر، وبرج إيفل في فرنسا، وبرج بيزا في إيطاليا، |
ولا ننكر أن تلك الآثار تعتبر من عجائب الدنيا، ولكنها عجائب ميتة لا روح فيها، وفائدتها للبشرية اليوم محدودة، لا تتعدى الفرجة عليها في كثير من الحالات، وكثير منها أقيم على حساب سعادة الآلاف والملايين من البشر الذين عملوا فيها سخرة، وذرفوا الدموع، ونزفوا الدماء والعرق، وفاضت أرواح بعضهم وهو يعملون في ذلك المشروع ليرضوا مستبداً، أو يخلدوا ذكراه في الدنيا، أما أعجب وأعظم مدينة في التاريخ فهي مكة المكرمة، مدينة النور، أم القرى، فعجائبها لا تكاد تنتهي، وتتجدد كل يوم، فقدوم إبراهيم عليه السلام إليها، وترك ابنه إسماعيل وزوجه هاجر بواد غير ذي زرع يعتبر أعجوبة، وتدفق ماء زمزم يعتبر أعجوبة، ورفع إبراهيم وإسماعيل القواعد من البيت الذي ذكر الله أنه أول بيت وضع للناس يعتبر أعجوبة، وصد أصحاب الفيل عن تدمير الكعبة، وتدمير حملتهم بالطير الأبابيل يعتبر أعجوبة، وميلاد محمد صلى الله عليه وسلم فيها، ويتمه من أبيه ثم من أمه، وترعرعه على الأمانة والصدق والتواضع والعمل الجاد يعتبر أعجوبة، وإصلاحه بين القبائل في قضية رفع الحجر الأسود إلى مكانه يعتبر أعجوبة، فقد رضي الجميع بحكم الصادق الأمين، الذي وضع الحجر في ردائه، وطلب من كل قبيلة أن ترشح واحداً منها ليشارك في هذا الشرف، ولما قرب الحجر من مكانه وضعه بيده الشريفة في مكانه، ونزول الوحي عليه في غار حراء الواقع في جبل النور يعتبر أعجوبة العجائب التي غيرت وجه الحياة على الأرض، وأثرت في جميع القارات، فلم يكد القرن الهجري الأول ينقضي حتى تهاوت عروش امبراطوريات كبيرة في مقدمتها أكبر امبراطوريتين في ذلك الزمن: الفرس والروم، ودخلت أجناس وألوان، وشعوب وقبائل مختلفة في دين الله أفواجاً، ولذلك وضع مايكل هارت النبي محمد صلى الله عليه وسلم الشخصية الأولى التي أثرت في التاريخ البشري، وذلك في كتابه (المائة الأوائل) الذي رصد فيه بالترتيب أكثر مائة شخصية أثرت في التاريخ البشري، ومن عجائب مكة المكرمة إنجابها للخلفاء الراشدين، ولكبار الصحابة، وللبيت الأموي، والعباسي، وتتجدد عجائب مكة وتأثيراتها الروحية والنفسية والعقلية والاجتماعية والاقتصادية كل يوم عدة مرات، مع توجه كل مسلم في مشارق الأرض أو في مغاربها إلى مكة لأداء الصلاة، ومع دخول أي فرد في الإسلام، وما أكثر الداخلين في الإسلام بعد أحداث 11 سبتمبر كما تشير التقارير، فالناس يدخلون في دين الله أفواجاً في جميع القارات، وبدون جهود كبيرة تبذل من المسلمين، ولكن الحملة التي وجهت ضد الإسلام نشرته على طريقة ما ذكره الشاعر القديم ولعله الإمام الشافعي رحمه الله: |
وإذا أراد الله نشر فضيلة |
طويت أتاح لها لسان حسود |
لولا اشتعال النار فيما جاورت |
ما كان يُعرف طيب عَرْفِ العود |
وتتجدد عجائب مكة مع كل رمضان، فهي قبلة المسلمين، ويتوافد لها الآلاف والملايين لأداء العمرة، ويستمر أداء العمرة طوال العام، كما يتجدد تأثير مكة، وتتجدد عجائب في كل حج حيث يجتمع فيها الملايين لأداء مناسك الحج، يمثلون جميع الألوان والأعراق واللغات في العالم، في لباس موحد، وفي توجه روحاني عظيم إلى الله، وكلهم أعين وحناجر تلهج بالتلبية والدعاء، وتتوالى الشعائر الرمزية من جمع للحجارة ورمي للجمار، وحلق وتقصير، وتقديم للهدي، مما يطهر النفوس، ويقربها من الله سبحانه وتعالى، فهل هناك مدنية في العالم تضاهي مكة المكرمة في عجائبها، وقوة تأثيرها المتجدد في الناس؟ إنني أتحدى أن توجد مدينة يمكن أن تملك عشر معشار ما تملكه مكة المكرمة من تأثير في حياة سكان العالم، ومن أجل هذا اهتم بها الحكام المسلمون على مر العصور، وأولتها الحكومة السعودية أهمية وعناية خاصة، وهاهي اليوم تشهد أكبر توسعة في التاريخ لتسهل على الحاج والمعتمر أداء مناسكه في يسر وسهولة، وفي مكة عجائبها قلت هذه القصيدة التي ألقيت في الاجتماع السنوي لجماعة تواصل في مكة المكرمة في مساء الثلاثاء 7 شوال 1429ه. |
جَرَى النورُ في وديانك الجُردِ أنهراً |
يبثُّ حياة في السهول وفي الذُّرا |
هنا ولد الهادي، هنا أُنزل الهُدى |
هنا مركز الدنيا، هنا قبلة الورى |
هنا جبل النور الذي شع نوره |
لكل فجاج الأرض هديا مُعطرا |
هنا أنزل القرآن وحياً منجماً |
بدايته (اقرأ) ومهبطها حرا |
هنا خير أرض الله طهراً ورفعة |
هنا مكة أم المدائن والقرى |
فأول بيتٍ قد أقيم بأرضها |
بما كتب المولى العليم وقدَّر |
وفعلةُ خير في حدود ترابها |
تعادل آلافاً على باقي الثرى |
إليها حُداة الفيل جاؤوا بركبهم |
وساروا لتنفيذ الجريمة أشهرا |
فباؤوا بخسران وباؤوا بلعنة |
وملك على مرا الزمان تبعثر |
وفي كل ركن شاهد وحكاية |
تكاد الجبال الشم تذكر ما جرى |
فزمزم والمسعاة والركن والصفا |
تمثل هديا خالدا وشعائرا |
وفي عرفات الله يوم كأنه |
مثول جميع الخلق بعثا ومحشرا |
ففي كل عام تلتقي فيه أمة |
تمثلها الأعراق لونا ومعشرا |
وألقى بها المختار أبلغ خطبةٍ |
تظل مع الآماد هديا مؤثرا |
تبين حق المؤمنين لبعضهم |
وتمضي لتدعيم الأواصر والعُرى |
محمدُ أستاذُ الوجود حديثه |
لمن كان ذا قلب بشيرا ومنذرا |
يعلمنا أن التواضع رفعة |
وقد جانب الإيمان شخص تكبرَ |
وأوصى بإكرام النساء ودلنا |
على أن في الأخلاق فضلاً مقدرا |
وقال بأن الدين يسر ومنهج |
يجانبه من كان فضاً مُعسرا |
وفي عرفات الله يتجه الورى |
لرب البرايا اعيناً وحناجرا |
مشاعر إيمان وصدق وتوبةٍ |
ونهرُ أحاسيس صفاء تفجر |
كأن جموع الحج وقت انحدرِاهم |
تدفق سيلٍ في مساربه جرى |
وفي مزدلفات يجمعُ المحرمُ الحصى |
ليرمي بها من كان غاوٍ ومنظرا |
حجارته باقي الشهور صلاته |
وطاعته لله سرا وظاهرا |
وأرض منى رمز لحرب طويلة |
تسجل فيها الروح نصرا مؤزرا |
ورمزٌ لتقديم الضحايا رخيصة |
لمرضاة من أحيا العظام وأنشرا |
هنا مكة رمز لعزة أمة |
عزائمها مالت بكسرى وقيصرَ |
ومنها رموز المسلمين ومجدهم |
على هامة الدنيا كتابا منشرا |
لنا الأمس وضاء وأظلم يومنا |
تفرق فيه جمعنا وتبعثرَ |
غدونا غثاء نكتوي بغبائنا |
وكم صار فينا الوغد للركب آمرا |
وبعض بنينا شوكة في حلوقنا |
يسير مع أعدائنا متآمرا |
تفرق شمل المسلمين وأمرهم |
لمن يعبد الدنيا يباع ويشترى |
ومكة لا زالت تشع ونورها |
يعيد حياة للمدائن والقرى |
وتستنقذ الدنيا من الجور والعمى |
وتملؤها عدلا وعيشا ميسرا |
يعيش بها الإنسان في هدي ربه |
طليقا سعيدا شامخا ومحررا |
فكم حرر الإسلام عقلا مقيدا؟! |
وكم عمر الإيمان قلبا مدمرا؟! |
أرى الأرض حبلى والوليد قناعة |
تغير وجه الأرض شكلا وجوهرا |
بداية نصر المسلمين تواصل |
يميت عداوات، ويبني أواصرا |
بداية نصر المسلمين تلاحم |
يعيد لنا بيت الأخوة عامرا |
يقوم على هدي النبي محمد |
يؤازر معروفا ويردع منكرا |
إذا جاء نصر الله والفتح سبحوا |
بحمد إله يجعل القفر مثمرا |
إذا جاء نصر الله والفتح سبحوا |
بحمد إله للجبابر قاهرا |
ستنضم أفواج إلى موكب الهدى |
ويصبح دين الله في الكون ظاهرا |
أستاذ علم الاجتماع في جامعة الإمام، رئيس مجلس إدارة الجمعية السعودية لعلم الاجتماع والخدمة الاجتماعية |
فاكس 012283689 |
|