أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم على المستوى الأسري والاجتماعي والفكري قبل أن ينزل الله عليه الوحي قليلة وشحيحة في المصادر التاريخية على كثرة هذه المصادر. لقد أسهبت هذه المصادر في إعطائنا أخباراً كثيرة عن مراحل حياته الأولى عن ظروف ولادته وأحداث صباه وبدايات شبابه، وتعددت الروايات التي تتحدث عن التشكيك به صلى الله عليه وسلم، لكن هذه المصادر تصمت فجأة وتكون شحيحة العطاء بعد زواجه صلى الله عليه وسلم من السيدة خديجة رضي الله عنها، وهو في سن الخامسة والعشرين، وسيستمر هذا الصمت حتى بلوغه سن الأربعين وبداية نزول الوحي عليه. لقد وقفت على معظم المصادر التاريخية للسيرة النبوية قديماً وحديثاً فلم أجد فيها عن الخمسة عشر عاماً التي عاشها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد زواجه من خديجة حتى نزول الوحي عليه إلا سطوراً قليلة، وحتى هذه السطور القليلة نجدها تضطرب في تقديم معلوماتها من مؤرخ لآخر دون إجماع، واكتفى المؤرخون المُحدثون بتقديم هذا الاضطراب على علاتة برواياته المتعددة دون ترجيح إلا فيما ندر، واتجه البعض الآخر إلى تجاوز هذه المرحلة المهمة من حياة نبينا صلى الله عليه وسلم قبل البعثة إلى مرحلة نزول الوحي وبدء تاريخ الإسلام.
هكذا تضطرب المصادر التاريخية في الحديث عن حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم على المستوى الشخصي والأسري، فهناك من يقول إنه صلى الله عليه وسلم لم يعمل بالتجارة بعد زواجه بالسيدة خديجة رضي الله عنها، وهناك من يقول إنه عمل بتجارة خديجة دون أن يأخذ الأجر الذي كان يأخذه قبل زواجها منها، وأنه لم يسافر بالتجارة خارج مكة بعد رحلته الشهيرة بتجارتها إلى الشام. كما لم تذكر لنا المصادر التاريخية نوع تجارة خديجة وحجمها. وفي حين تذكر بعض المصادر أن تجارة خديجة تضاعفت بعد زواجها برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أصبحت تعدل تجارة قريش كلها، تميل مصادر أخرى أن السيدة خديجة لم تعمل بالتجارة بعد زواجها برسول الله صلى الله عليه وسلم!!.
كما تضطرب هذه المصادر أيضاً في ذكر سنوات ميلاد أولاد الرسول صلى الله عليه وسلم وبناته وترتيب ميلاد كل واحد منهم من السيدة خديجة رضوان الله عليها. فهناك من يقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنجب منها أربعة أبناء، هم: القاسم وعبدالله والطيب والطاهر، وتذكر بعض المصادر أنهما القاسم وعبدالله فقط وأن الطيب والطاهر من أسماء عبدالله. وتورد بعض المصادر أن القاسم هو أول مولود لرسول الله من السيدة خديجة قبل البعثة وأن عبدالله هو الأخير ولد بعد البعثة في حين توجد أدلة أخرى تظهر أن القاسم ولد في الإسلام، وهذا ما يرجح أن زينب هي الأولى في أولاده الذكور والإناث، ومع ذلك فهناك اضطراب في ترتيب مولد الإناث فهناك من يقدم مولد رقية على زينب، والبعض قدم أم كلثوم كما قدم آخرون مولد فاطمة على أختيها، ولا نستطيع إغفال دور التشيع في إهمال بقصد أو غير قصد أخبار أخوات فاطمة - رضي الله عنها جميعاً - بل حتى أخبار خديجة نفسها - رضي الله عنها. ومن الناحية الاجتماعية لا تتوفر لدينا معلومات عن علاقته صلى الله عليه وسلم بالمجتمع المكي إلا ما توحي به الأحداث الكبيرة في حياته مثل إطلاق لقب (الأمين) عليه، واختياره لوضع الحجر الأسود في الكعبة، وهي دلالات كبيرة على المكانة الاجتماعية والاحترام الذي كان يحظى به صلى الله عليه وسلم في مجتمع مكة المكرمة. ولكن لم يزودنا التاريخ بمعلومات وافية عن علاقاته وصداقاته برجال عصره سواء الذين نصروه وآمنوا به بعد بعثته أمثال أبي بكر الصديق أو أعلام عصره من الموحدين الحنيفيين الذين كانوا يبحثون عن الحقيقة وينتظرون ظهور نبي يدعو إلى الدين الحق أمثال ورقة بن نوفل وزيد بن عمرو بن نفيل وقس بن ساعدة الأيادي وأمية بن أبي الصلت ولبيد بن ربيعة العامري، وقد عاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم معظم هؤلاء وسمع عنهم وسمع منهم، وأدرك بعضهم بعثته أمثال ورقة بن نوفل.
ولا يمكن لرجل مثل محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم الذي اشتغل بالتجارة واختاره قادة المجتمع المكي في عصره لوضع الحجر الأسود في الكعبة أن يغيب عن التجمعات الاجتماعية والتجارية مثل (سوق عكاظ) الذي كان تجمعاً ثقافياً وتجارياً لكل العرب وخاصة أنه صلى الله عليه وسلم كان يشتغل بالتجارة آنذاك، ولا يمكن مثله أن يغيب عن اجتماعات (دار الندوة) في مكة التي تتم فيها قضايا الحل والعقد في المجتمع المكي. ومع ذلك فما وصلنا عن علاقته بهذين التجمعين لا يزيد على شوارد الأخبار في كلمات قليلة تأتي عرضاً في المصادر التاريخية والسنّة النبوية الشريفة، ولكن من الممكن البناء عليها باستنتاجات لها أدلة تحتاج إلى الوقوف عندها وتأملها. وتتسع ذاكرة التاريخ لهذه المرحلة كلما ازددنا اقتراباً من بلوغه الأربعين وبداية نزول الوحي عليه، فنجد من الأخبار بعد بلوغه الخامسة والثلاثين وضعه للحجر الأسود في الكعبة، وتواتر أخبار حبه للخلوة في غار حراء والرؤيا الصادقة وتسليم الحجر والشجر عليه.
ولهذا فإن هذه المرحلة بحاجة إلى تغطية وافية لأخباره صلى الله عليه وسلم في الخمسة عشر عاماً من حياته قبل البعثة، بحيث يتم جمع مصادر الأخبار ودراستها وتمحيصها والاستنتاج منها بما يتفق مع مواصفات شخصية إنسانية اختارها الله سبحانه وتعالى لتكون رحمة للعالمين ويكون صاحبها آخر الأنبياء صلى الله عليه وسلم، فإن على المختصين في السيرة الالتفات إلى هذه المرحلة المجهولة من حياة رسول رب العالمين صلى الله عليه وسلم، لأن الظن الذي يغلب على كثير من الدارسين ومعظم عامة الناس أنه لم يعد هناك جديد يمكن دراسته في سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم لكثرة ما يوجد عنه من كُتب يكرر بعضها بعضاً أكثر مما يقدم جديداً، ولا يوجد شرف يناله باحث أكثر من شرف الكتابة عن سيد المرسلين وخاتم النبيين صلى الله عليه وسلم.
hemaid1425@yahoo.com