أن تلغي الوطن، بحجة الانتماء للأمة، فهذا لا أرفضه أنا فحسب، وإنما يرفضه مفهوم الدولة (الوطن)، التي تنطلق منها مفاهيم، وكذلك (قوانين)، الانتماء للدولة الحديثة. الإسلام مشترك عالمي، يشاركنا فيه نحن السعوديين أكثر من مليار مسلم، والعروبة يشاركنا فيها - كذلك - كل من نطق باللسان العربي، واعتبر ذلك دلالة كافية على انتمائه القومي. والانتماء للإسلام أو للعروبة انتماء أوسع من الانتماء للوطن. أن تؤخر انتماءك للوطن بحجة أن (الأولوية) هي للأمة؛ فأنت هنا تعترض (ضمنياً) على كل الأنظمة وما يترتب على هذه الأنظمة من حقوق؛ لتجعل (الأولوية) تنحصر في الانتماء (للأمة) فحسب، وليس (للوطن) بحيزه الجغرافي الذي ينتهي الانتماء إليه بانتهاء حدوده الجغرافية وكل من يعيش داخل هذه الحدود. وهذا يعني أن يصبح جميع المسلمين، أو العرب، متساوين مع السعوديين في الحقوق والواجبات، وهذا ما يرفضه - في تقديري - أغلب السعوديين، إلا (المؤدلجين) منهم؛ أو من لهم أهداف حزبية تحتم عليهم أن يرفعوا شعار (الأمة أولاً)؛ ليناهضوا - في السياق - كل مفاهيم (الوطنية). وهذا ما أشار إليه - بالمناسبة - كتاب (إدارة التوحش) الذي ضبطته السلطات الأمنية مع إحدى الخلايا الجهادية التي تم ضبط مجموعة من أفرادها مؤخراً.
ونحن عندما نرفع شعار (الوطن أولاً) لا يعني إطلاقاً أننا نلغي المشتركات الأخرى، وتحديداً الإسلام والعروبة، من حسابات الانتماء؛ فكون جارك - مثلاً - يشترك معك في الدين واللغة، لا يعني أن يكون له حقوق وعليه واجبات (متساوية) مع مَن يعيشون معك بحكم الانتماء داخل البيت طالما أن بقاءهم في البيت دائم وليس مؤقتاً؛ وهذا - بمنتهى البساطة - ما نقصده عندما نرفع شعار (الوطن أولاً)، أو إن أردت: (بيتنا أولاً)، وهو - أيضاً - يواكب قوله - صلى الله عليه وسلم -: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته؛ فالإمام راع وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده وهو مسؤول عن رعيته، والرجل راع في مال أبيه وهو مسؤول عن رعيته، فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته). وتراتبية (الرعاية) هنا هي ترتيب (للأولويات)، وهذا يسوغ لنا في النتيجة أن نرفع هذا الشعار، وندافع عنه. ولعل من الإساءة إلى الإسلام، وإلى أدبيات الإسلام، أن تجعل من الدين والوطنية ضدين لا يلتقيان، كما هو الخطاب المتزمت الذي نسمعه من (البعض) بين الحين والآخر؛ فالوطن حقيقة واقعة، لن يلغيه رأي متكلس هنا، أو تفسير نص قال به (متطرف) هناك، وما لنا إلا التماهي مع هذه الحقيقة.
ولا يمكن أن نكرس مفاهيم وقيم (الوطنية) إلا بتكريس قيم العدالة والحرية والمساواة بين جميع أفراد المجتمع الواحد، دون الالتفات للتباينات بين المواطنين لأي سبب كان؛ فلا يمكن أن تطلب من مواطن ولاءً كاملاً وأنت لا تعطيه حقوق مواطنة كاملة.
دون أن ننطلق من هذا المنطلق الذي هو بمثابة حجر الزاوية في بناء الشعور الوطني لدى الإنسان؛ فإن الدعوة إلى الوطنية، وإلغاء كل التباينات، أياً كان نوعها في سبيل الوطن، ستنتهي إلى الفشل حتماً. إلى اللقاء.