حين ولدت، ذكرا، استبشر أبي وفرح بي برغم أن لديه غيري من الأبناء والبنات، وكبرت كما غيري من الأطفال، ونلت عناية واهتماما منه كما ناله إخواني. ودرست وتخرجت بتفوق مذهل، وطرقت أبواب العمل فوجدت لي عملا مناسبا أظهرت فيه كفاءتي وتفوقت على زملائي وبززت أقراني، وتدرجت في الوظائف والمناصب حتى أصبح لي وضع اجتماعي راق!
توقعت أن يكون لي حساد وأعداء من زملائي أو أقاربي وربما أصدقائي، وهو أمر طبيعي؛ إلا أن هذا لم يحدث، لأنني كنت أجاملهم وأحرص على حضور مناسباتهم ومشاركتهم أفراحهم وأحزانهم، وأبذل من المال والجاه لمن حولي ما استطعت لذلك سبيلا وبما لا يخالف مبادئي أو يتعارض مع النظام.
ولا أنكر أنني وجدت الحظوة من أقاربي وأفراد مجتمعي، فقد منَّ الله علي بالذكاء الاجتماعي والإحساس المرهف، فكان هذا الشعور يجعلني أتوقع الأشياء قبل حصولها وكنت أسعى لتقليم أظافر الحسد والغيرة بإشباع الحاجات النفسية لإخواني بالذات لإدراكي أنهم ربما يقارنون أنفسهم بي والبون بيننا شاسع تعليميا ووظيفيا ولهذا - برأيي - لم ينالوا ما نلته من توفيق ونجاح!
وفي لجة النجاح الذي أعيشه اكتشفت أمرا مذهلا! حيث لاحظت ضيق والدي بكل منصب أحصل عليه أو دعوة توجه لي! بل وفي كل خطوة نجاح أقطعها. واستيقظت على حقيقة ساطعة كسطوع الشمس: أن والدي يغار من نجاحي ويحسدني بل ويدعو علي.
تخيلوا، والدي يدعو علي!
وحين اكتشفت هذا الأمر هان كل نجاح وتوارت السعادة من نفسي!
راجعت تعاملي معه حفظه الله وأثابه خيرا على حسن تربيته لي وتعليمي وتشجيعي، فلم أجد إلا البر به وبوالدتي حفظها الله. ولكن أبي غير راض ٍعني، لماذا؟
شغلني الأمر فذهبت أبحث عن التاريخ التطوري لأبي. علمت أنه تعرّض للاضطهاد أثناء عمله وتم تهميشه برغم نبوغه واجتهاده، فانطوى على نفسه ودخل في مرحلة اكتئاب مزمن حين رأى زملاءه يرتقون سلم الوظيفة بخفة ورشاقة وهو أفضلهم علما وأكثرهم تجربة وخبرة، وأشد حرصا وإخلاصا وأوفر صدقا وأمانة! حتى أصبح يكره النجاح وأصحاب المناصب، ويرى أنهم حصلوا عليها بدون استحقاق!
لم ألبث طويلا حين عرفت سبب معاناة والدي الحبيب وحساسيته المفرطة فاستجلبت شيئا من ذكائي! تذكرت أنني لم أنسب قط أي نجاح لحسن تربيته ورعايته ودعائه بعد توفيق الله! فكنت أؤكد لمن حولي - دون شعور مني - بأن هذا النجاح جهد شخصي، وقد نسيت تماما أن أجيَّر هذا النجاح لوالدي، فلم أذكر إطلاقا أنه هو صاحب الفضل فيه، وهو بالفعل كذلك. علمت بالفجوة فردمتها وذهبت نحو والدي أقبِّل يديه وأطلب صفحه، وبدأت أستأذنه عند كل سفر، وأطلب موافقته وأحرص على دعائه لي عند كل مشروع أنوي القيام به، وألتمس رضاه. وشرعت أصحبه معي في أغلب المناسبات التي تخص عملي وأعرِّف المدعوين بهذا الأب العظيم تقديرا له وبرا به، ورداً للجميل.
ذات يوم رأيته وهو في خلوته يرفع يديه مبتهلا لربه أن يوفقني ويزيد في رزقي ويعلي مراتبي!!
rogaia143@hotmail.Com
ص. ب260564 الرياض 11342