ما الكيفية المثلى لمواجهة المد التكفيري الشائع على امتداد طول العالم الإسلامي وعرضه, وهو يتضاعف ضراوةً ويتمادى شراسةً كلما تعرضت الأمة لهجوم عدواني؟ هل نواجه التكفير بتكفير مضاد لخلق حواجز صلدة في وجهه, ولعرقلة حراكه التصاعدي، أم أن ثمة شكلاً أسلوبياً آخر, أعلى فاعلية وأبلغ في إفرازه التأثيري؟
أولاً, وكخطوة أولى، تجدر الإشارة إلى أن مواجهة التكفير بتكفير مماثل شأن لا يتوافر على ما يرشحه للجدوى؛ فهو لا يباشر حل المشكلة بقدر ما يفاقم من أوارها, ويضاعف من حضور الحس الدوغمائي الغارق في أتون التعصب, ويفضي إلى تسارع وتائر الحضور التكفيري, إنه لا يحوّر في الذهنية التكفيرية بقدر ما ينمي من تماديها في تجديفها, ويساهم في تأجيج وصنع الأجواء التكفيرية. ومن جانب آخر فإن الخلق الراقي يربأ بأناه عن مواجهة الشتيمة بمثلها ويسمو عن الانحدار إلى مبادلة السيئة بما يضارعها. إن النضج العقلي يفرض على صاحبه عدم الدخول في متاه الاحترابات اللفظية؛ لأنه يدرك أن الطاقة البشرية محدودة والوقت في هذه الحياة زهيد؛ ولذلك لا يسوغ أن ينفقها في أشياء تافهة تستغرق جهده وتستهلك وقته. إنه مشغول عن اللغو والهذر والثرثرة الفكرية, في الإنتاج والبناء والإصلاح العام.
ثانياً: الخطوة الثانية المتبعة في هذا السبيل تتمثل في دراسة مسحية استقصائية تتوخى إدراك بواعث التكفير الدافعة باتجاه تبلوره, ووعي منطلقاته التي تملك عمقها الاستراتيجي في بنيته الذهنية, وتلمّس المعطيات الغائرة التي تشتغل على تغذية تجلياته والوقوف عن كثب على نوعية الأرضية الخصبة التي ينمو من خلالها. كل هذا يشكل مقدمة ضرورية لا مناص منها في سبيل التحرر من أسر هذا الفكر وإيجاد الترياق الملائم لاستئصال شأفته وتحسير دائرة حراكه وتجفيف تمظهراته إلى أضيق مدى متاح. البحث العميق عن الجذور السببية للتكفير هو الخطوة الأولى في سبيل القضاء عليه واندحاره, فربما كانت الأجواء الاقتصادية والسياسية هي اللاعب المؤثر الأول في ترعرع المعطيات الفكرية ذات النزعة التكفيرية, وآلية المعالجة في هذه الوضعية تنحصر بإزالة تلك الموانع وإقصاء تلك الأسباب, أما لو كانت بواعث التكفير ذات بعد ثقافي فإلاشكالية هنا مضاعفة ويتحتم في هذه الحالة مواجهة الفقه التكفيري القائم على محور المفاصلة, وبعث جذوة من الضياء لتضيء واقعه الحالك من خلال المنطق البرهاني وعبر الحجة العقلية بعيداً عن السياق الجدلي السجالي الذي قد يفضي إلى ارتدادات عكسية, قد يكون الحل الأمني علاجاً، لكنه (وحده) لا يكفي؛ فالفكر يحارب بالفكر والقوة تأتي تبعاً له وليس العكس، وقد شهدت وقائع التاريخ ونطقت حقائق الشاهد أن القوة تقمع، لكنها لا تقنع؛ ولذا فلكي يجري إحداث زلزال في البنية التحتية لهذا الفكر الذي يفتقد قوة البرهنة, فلا تحكمه المعطيات الممنهجة, ولا يخضع لقوننة معرفية محكَمة, لا بدَّ من توظيف الفكر نفسه لتعريته وإثبات وهنه, وتجلية مدى افتقاره للماينبغيات الموضوعية, ومدى افتقاره للمسوغات النصية مهما تفانى في سبيل تطويع النص ولي عنقه وإخضاعه لعملية إسقاط منظمة, والتأكيد على أنه فكر منشق على الأسس الشرعية ومناهض لأدبياتها الداخلية. إن هذا الفكر بطبيعته مترع بالدوغمة, واحتمال الخطأ عنده يضارع في استحالته اجتماع النقيضين!, فهو يقدم أطروحة جزمية قطعية, وضمن أطر نهائية وناجزة, إنه خطاب منغلق يشبع إثباتاته بجزم تعسفي يسد الباب على إثارة احتمالات أو تصورات متعددة. ولتجفيف منابع هذا الفكر الذي لا ريب أن في النهاية مصيره إلى تباب, ومؤداه إلى انكماش, لا بدَّ من تسليط أنوار التصحيح عليه ومحاصرته بأشعتها النافذة والهاتكة لحندسه وتحديد الشبهات التي ينبعث على ضوئها وتفنيدها - مع أنها تحمل تفنيدها في ثناياها وتحتوي في قاعها اللجي على عناصر تلاشيها - وتنقية ما علق بصورة الإسلام النقية من شوائب, في إطار من المعرفة والموضوعية المتناهية. إن استخدام منطق القوة مع استصحاب قوة الفكر جنباً إلى جنب هو الكفيل بنجاح عملية المحاربة والضامن لإيجابية مشروع التجفيف ليرجع هذا الفكر خاسئاً وهو حسير, ولتبوء محاولاته في مغازلة المخيال الشعبي للاندغام في إطاره, بالإخفاق التام. الحل الأمني (وحده) ليس مرشحاً للنجاح المتكامل, نعم قد يخفف من حدته, قد يقلل من شراسته, قد يهدئ من ضراوته, قد يعمل على تواريه أحياناً، لكن لا يجتثه من جذوره, إنه لا يلامس أصوله التي تمده بالنماء والانتشار والتمدد, إنه لا يشتبك مع ركائزه المركزية التي ستبقى الذهنية التكفيرية ببقائها. كل هذا من شأن الفكر؛ فهو المؤهل للدخول في هذه المنازلة التي يملك فيها كل أدوات الانتصار وإلحاق الهزيمة الساحقة بالعدو اللدود. عن طريق الجهود الفكرية المنظمة تجري إزاحته خارج دائرة التأثير, وإلجاؤه إلى أضيق السبل, ودحرجته إلى مستنقعه الآسن الذي لا يجوز أن يغادره بحال, إنه لا بد من دراسات فكرية تضع هذا الفكر على طاولة التشريح, وتدرسه على أكثر من صعيد نفسي واجتماعي واقتصادي وسياسي وتنفذ إلى أعماق بنيته على سبيل البحث عن فرص زحزحة لبعض المفاهيم التي تمده بهذا الزخم, وتفنيدها على نحو يسمح لمبدأ التسامح بين الفرقاء بالانبعاث الحقيقي. إن الواجب الشرعي والأمني يفرض علينا التنديد الصريح بهذا الفكر وشجبه واستنكار مواقفه, وعدم التحفظ في ذلك. إن المواقف المتحفظة من هذا الفكر هي في الحقيقة تغذيه وتدفع عجلته إلى الأمام, إنها واقعة في شَرَكه, وشريكة له بشكل أو بآخر. لقد ابتلينا في مشهدنا الراهن بفئة من أرباع وأنصاف المتفقهين المسكونين بالمفاصلة الحدية مع مَن لا يتقاطع مع منظومتهم المفاهيمية, ولا يجدون ضيراً باسم الإسلام وبشعارات قرآنية مقدسة في الحكم بالكفر والردة على من يباينهم في مسألة جزئية في العقيدة أو الفقه بل أو التاريخ ويتفرع عن ذلك اختراقهم لمبدأ إسلامي هام على المستوى الإنساني, وهو مبدأ عصمة الدماء, حيث يهدرون دمه ويستحلون ماله وينتهكون حرمته؛ الأمر الذي يفرض التوجه لتأسيس لثقافة متأنية تتحاشى - قدر الإمكان - الإقدام على نعت الآخر بالكفر ووصمه بالشرك وإقصائه عن الدائرة الإسلامية.
ثالثاً: الخطوة الثالثة في هذا السبيل هي تعزيز ثقافة التسامح وضخ مفاهيم الأخوة الإنسانية, وبذل الجهد التنظيري المؤصل في سبيل تقرير مبدأ التعايش وضرورة احترام الآخر ورعاية حقوقه وحفظ إنسانيته وتجنيبه الأذى ما دام لا يتحرك في خط الظلم والعدوان. إن من الضروري إحسان التعايش مع الآخر, واستبقاء أسباب الود في النفوس بنظافة السلوك وروعة التعامل؛ فلعله أن يحل يوم منظور تتبدل فيه قناعات جملة من مكوناته؛ فينضموا إلى هذا الدين وينضووا تحت لوائه السامي. إنني أخال أن التسامح من أهم القيم التي يجدر التبشير بها وفسح المجال لها وخلق المناخات التي تظللها؛ فهي الكفيلة في حال تموقعها, بارتكاس هذا العفن الأيديولوجي في درك هابط لا حدَّ لمداه. هذا التسامح يعني فيما يعنيه الإقرار بحق الاختلاف بين الأناسي؛ لأن موجات التكفير والتكفير المضاد تجد في أجواء القمع والاستبداد ومصادرة الرأي أرضاً خصبة فيها تنبت وتدرج في مدارج النمو. إن التكفير يتحرك بمرونة هائلة ويتمتع بخفة ظل ملحوظة في ظل أحادية الرأي, والفكر الأحادي والقوالب الفكرية المنغلقة التي يراد فرضها على الآخرين بالقوة ومصادرة حقهم في الاختلاف.