استطاع عهد الرئيس بوتين أن يلملم الجراح العميقة التي تركها تفتيت الاتحاد السوفيتي وأن يبني عهداً جديداً ودولة حديثة على انقاض امبراطورية مهدمة ماتت أيدلوجياً وفكرياً، وظهرت روسيا الاتحادية باقتصاد منظم قوي وغني يعتمد على ملكية زراعية حرة وصناعات متطورة تعتمد أيضاً على الانفتاح النوعي التنافسي في السوق العالمي لتصل إلى كل مستهلك في آسيا وإفريقيا وأوروبا دون اتفاقات مقايضة بقطن مصري أو نفط عراقي أو أن تخدم تثبيت مراكز القوى لرفاق في دولة آسيوية - افريقية ارتبطت حديثاً بالمعسكر الشرقي.
ركز الرئيس بوتين على تنظيم روسيا في الداخل وثبت الحركة الديمقراطية البرلمانية واستطاع أن يحل مشكلات الأقاليم ويخمد روح الانفصال فيها، بل تعدى ذلك بتوثيق العلاقة المميزة والإستراتيجية مع الدول الآسيوية المسلمة التي انقسمت عن تشكيلات الاتحاد السوفيتي السابق وأبقى على جسور قوية من التعاون والتحالف العسكري مع هذه الدول الجديدة. وتمكن بوتين وبهدوء دولي من تحديث البزة العسكرية الروسية وأعاد لها مكانتها وسمعتها في سوق السلاح الدولي.
وتمكنت الدبلوماسية الروسية من رسم خارطة ثابتة من العلاقات السياسية والاقتصادية والمبنية على المصالح المشتركة مع دول كانت بعيدة جداً على دبلوماسية الرفاق الحمر التي حولت العلاقات الدولية آنذاك إلى معسكرين متناحرين أحدهما شرقي اشتراكي وآخر غربي رأسمالي. ونتيجة لهذا التصادم الفكري الأيديولوجي نشأت سياسة الحرب الباردة لتخلق مناطق ساخنة قلقة في العلاقات الدولية وشملت دولاً عديدة في أمريكا الجنوبية ومسرحها المفضل في الشرق الأوسط.
وانفردت الولايات المتحدة الأمريكية بالزعامة العالمية وأصبحت القوة السوبر التي تفرض إرادتها السياسية والاقتصادية على العالم بأسره تحت مسمى حديث سمته العولمة وتحويل الخارطة الدولية إلى قرية واحدة إثر الثورة الصناعية الإلكترونية التي ربطت الكرة الأرضية بخطوط مواصلات غير مرئية من آلاسكا حتى هورشيما في اليابان دون النظر إلى الماضي في ملف العلاقات الدولية.
ومع هذا الترابط الدولي المعتمد على القطب الواحد بدأت القوة الروسية تحاول عرض إمكانياتها العسكرية والدبلوماسية في بعض المناطق الرخوة من العالم ولم توفق لإيقاف المد الأمريكي في تفكيك يوغسلافيا الاتحادية وبالذات قصف حليفتها الأرثوذكسية صربيا وتقديم رئيسها إلى المحكمة الدولية كمجرم حرب ونهايته مع المراحل المتأخرة من تلك المحاكمة وسكونها بغضب على إعلان استقلال مقدونيا وكسوفو. وظهر التحدي الروسي بصورة قوية وسريعة حين اكتسحت الدبابات الروسية حدود جورجيا وهددت عاصمتها بالسقوط بضربة عسكرية خاطفة اشتركت القاذفات الروسية بتدمير مطارات جورجيا والتي لجأت للحليفة الكبيرة أمريكا التي هدأت من روع الرئيس الجورجي الذي غره السلاح الإسرائيلي وصور له ضم أوغازيا كنزهة عسكرية لا تستغرق ساعات وأفاق في أحلامه على قرار إعلان استقلال أوغازيا باعتراف روسي سريع جداً وعاد الدب الأبيض لمسرح العمليات الدولية وبقوة جديدة تعيد لروسيا جزءاً من زعامتها العالمية وثبتت نجاحها كقطب جديد في القوة الدولية وبرهن تحالف الرئاسة ميدفيديف- بوتين على ظهور زعامة قوية تقود روسيا نحو مركزها المتقدم بين القوة السوبر وشريكها الاتحاد الأوروبي.
وبدأت البحرية الروسية للإعلان عن تحديها للمياه الدافئة التي تحتضن الأسطول السادس واحتكر أمواجه لسيطرته الأوحدية وبدأ الطراد الصاروخي (موسكوفا) رحلته نحو البحر الأبيض المتوسط مغادراً قاعدة سيفاستوبول في البحر الأسود ليعبر مضيق الدردنيل نحو البحر الأبيض المتوسط للقيام بمناورات عسكرية بإطلاق صواريخ بالستية بعيدة المدى وتجربة جديدة لصواريخ بورت الحديثة ومضادة للصواريخ المستهدفة النيران الصادرة عن الطراد (موسكوفا). وسبق تلك المناورات إطلاق صاروخ سينغيا العابر للقارات من غواصة روسية ليصل مداه إلى 8300 كيلو متر وتم إطلاقه من تحت الماء وتأكد إصابته للهدف في المنطقة الإستوائية في المحيط الهادي.
وقد استضافت الموانئ العربية في البحر المتوسط بعض القطع البحرية من الأسطول الروسي فقد أعلن ميناء طرابلس الليبي استضافة سفينتين حربيتين روسيتين في طريقهما إلى إجراء مناورات في المحيط الأطلسي مع البحرية الفنزويلية على مقربة من السوحال الأمريكية. فهل يعيد ثنائي بوتين شافيز في مناورات الأطلسي أزمة خليج الخنازير الذي كان بطلاها خروشوف وكاسترو وتكون هذه المناورات الجديدة اختبار قوة للقطب الأمريكي السوبر؟.
* محلل إعلامي - عضو هيئة الصحفيين السعوديين