والمسلم يختلف عن المادّيين، في تسخير علمه، إلى عقيدة راسخة، تربطه بخالقه سبحانه في جميع أموره، فهو عندما يتأمل النصوص الشرعية، عن الله وعن رسوله، يأخذها على دلالتها من دون تحريف ولا تبديل ولا تأويل ليؤمن بها لأنها من ضروريات عقيدته، دلالتها والسير على ما تدعو إليه، لأنه بلا شك سوف يدرك بعقله، ويبرز أمام ناظريه، بلا تردد تحديداً دقيقاً، لأبعاد ما ترمي إليه تلك النصوص.
وتتفتّح أمامه آفاق واسعة، من المعرفة المستمدة من عمق الدلالة، وبُعْد ما تصبو إليه من إصلاح للفرد والمجتمع {وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}.
وما ذلك بلا ريب، إلا أن العقل السليم، يهتدي إلى ما رمتْ إليه تلك النصوص، من دعوة للعمل ورغبة في التأمل والاعتبار، مع التخريج اللغوي، المفيد بدلالته اللفظية، على المعنى، كما قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: (عليكم باللغة العربية، فإنها وعاء الدين) وابلغ من ذلك قوله الله سبحانه: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} (سورة النساء 82).
والمتأمل في الأساسيات الشرعية، في دين الإسلام، يبرز أمامه ما في القرآن الكريم، والسنة المطهرة، من نصوص كثيرة تشيد بالعقل، والتفكر، والدعوة إلى الاعتبار، حيث يرتبط في ذلك الإحساس الوجداني بالمحسوس الذاتي، فتتراءى له طُرق ممهدة للعقل، ليسترشد ويأخذ المعرفة عن يقين وثبات.
إذ تأتي نصوص كريمة تفتح باباً، تخاطب معه العقول مثل {كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} (سورة البقرة 219)، وقوله سبحانه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (سورة الرعد 3)، وقوله: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (سورة الأعراف 176)، وآيات: التفكر والتعقل، ومخاطبة القلوب والأفئدة، والألباب كثيرة جداً، في دعوة للعقول التي زاغت عن الحق واستعملت علمها في التفكر الضار، لعلها ترْعوي، لتستخدم ما أعطاها الله من قدرات ذهنية وعقلية فيما يسعدها، ويفتح لها طريقا آمنا.. فمنهم من استجاب لداعي الهدى، فنجح وسعد، ومنهم من قاده فكره إلى المنحدر الذي أوقعه في المهالك، كما أخبر الله عن الوليد بن المغيرة بقوله: {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاستكْبَرَ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} (المدثر 18-25).
والفكر كالميزان، له كفتان وهاتان الكفتان، واحدة تأخذ صاحبها إلى اليمين، وهذا هو الفكر السليم، الذي يرتفع بصاحبه إلى المكان الأسمى، في العقيدة التي تربط صاحبها بخالقه، وجدانياً، يزين ذلك العمل الصالح وفق ما يرضي الله، ويُسعد صاحبه.
والكفة الثانية: مهما كانت قدرات صاحبها: عقلاً وفكراً، فإنها تنحدر بصاحبها وفكره المنحرف، إلى الهوان والخسارة، كما رأيت أيها القارئ الكريم، من آيات المدثر، كيف قادت صاحبها: فكراً وعملاً، إلى الخسارة الأبدية، إذ كان عنده فكر، لكنه انحرف بصاحبه إلى العناد والمكابرة، ومحاولة طمس نور الله والهداية، حيث غوى بذلك وهذا فيه توجيه، لما يجب أن يُعْمِل الإنسان فيه فكره، لعله يسترشد ويعي المسلك الصحيح الذي يقرّبه من خالقه: استجابة عقلانية، ورابطة وجدانية: هي التقوى التي أمر الله بها.. التي تعني مراقبة الله في السر والعلن.
ومن هنا فإن سلفنا الصالح - رحمهم الله - كانوا يقدّمون النص، الثابت عن الشارع، متى صحت دلالته، ولا يؤولونه، على هواجس العقل، ويبعدون كل ما يعارض ذلك النص، من أي مصدر من مصادر المعرفة، في جميع ما يتعلق بالسلوك والتصور والعمل، ومن هنا يجب طرح جنوح العقل، إذا كان ذلك يدعو للاصطدام بالنص الشرعي، فيما يتعلق بالعقيدة والعبادات، يقول علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: (لو كان دين الله، وما شرع لنا، بالعقل كان المسح على باطن الخفين، أولى من المسح على ظاهرهما لكنه أمر تعبدي أمرنا به).
فما يدرك السامع، من نظرته - رضي الله عنه -، وغيره من سلف هذه الأمة التسليم والرضا بما جاء من تشريع، والتطبيق بطواعية، وقناعة، وعمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، مع شدّته في الحق، واهتمامه بالتطبيق بسلامة الدليل، يقف عند بعض الأمور متسائلا مع كبار الصحابة ليأخذ عنهم العلم الذي يرسخ العقيدة، مع شاهده الشرعي، حيث روي عنه قوله: اللهم إيماناً كإيمان العجائز، لأنهن يطبقن الأمور الشرعية، بدون مساءلة عن الحكمة والسبب، أو المجادلة في العلّة، تلك الصفة التي انفتحت في عهد من عهود الإسلام، فنتج منها الخلاف والفرقة، وتعدّد الطوائف، والله سبحانه قد أمر بالاعتصام بحبله، وعدم الفرقة، التي بها تذهب مكانة الإنسان، ليصبح بعضهم عدوا لبعض يقول سبحانه: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ} (سورة آل عمران 103)، {وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (101) سورة آل عمران.. لأن النص الشرعي في الإسلام، يعطي حقيقة قطعية الثبوت لمن ارتبط به: اعتقاداً وعملاً، وإذا كنا في حاجة إلى الدخول، في أعماق أحاسيس المخدوعين بفلسفة العصر المستوردة من جذور قديمة تتنافى مع منهج الإسلام حسب منطوق الماديين، ومصادر معرفتهم، حول الأمور التي تثبت فيها أحكام الإسلام: كالقصاص، والزنا والسرقة، والكذب وقول الزور وغيرها، بحيث حكموا من منطقهم المعرفي، بالقسوة وعدم الملاءمة لزمانهم.
فإنّ الذي نخاطبهم به هو بالرجوع للأرقام والإحصائيات، عن عدد من نفذ فيهم حكم الله وهم قلة، مع أثر ذلك في استئصال شأفة الشر، والقضاء على الجريمة، وانعكاس ذلك على المجتمع هدوءاً وأمنا، واستقراراً ومحافظة على الأموال والأعراض، وقوة العقيدة.. وعن عدد من رحمتهم قوانين العصر المادية، ورأفتْ بحالهم مع تعدّد جرائمهم، وما نتج من ذلك من خوف وقلق، ومصائب متعددة مع إفساد للمجتمعات في أمور تكثر مع القوة المنفذة للحكم أو تراخ فيه، ومن هنا فقد نُقل عن حاكم إحدى الولايات المتحدة بأمريكا في الجنوب قوله: لَنْ يقضي على الجريمة عندنا، إلا الإسلام، لأن من أسلم في السجن، لم يعُدْ إلى الجريمة مرّة أخرى، وصَلُحت حاله، وصَلُح بصلاحه كل من تأثر به.
وعثمان بن عفان الخليفة الراشد الثالث - رضي الله عنه - يقول: يزع الله بالسلطان، ما لا يزع بالقرآن، بمعنى أن الاهتمام من السلطان - وهو الحاكم - والمتابعة في تطبيق الأحكام، وتنفيذها أعظم رادع، لأنه حكم الله.
ولا شك أن نتائج الدراسات الأمنية، في بلاد الغرب، الصادرة عن المختصين عندهم، بمكافحة الجريمة - كما ذكرنا آنفاً، نموذجها مقالة، حاكم إحدى الولايات الجنوبية بأمريكا، تدلّ على نتائج القلق، وتكشف عن أرقام تهتز لذكرها القلوب، عن مستوى الخلل الأمني، مما أيقظ حساً لدى بعض العقلاء والمفكرين، بأن الحلّ يكمن في تعاليم الإسلام بالقضاء على الجريمة، وما يتبع ذلك من هدوء اجتماعي، في ثنايا مسيرة هذا الدين، الذي مَضَتْ قرونه الأولى، في أمنٍ وأمان، وراحة وعدم اضطراب.. بل والأفكار في التشريع، التي لو طبقها الغرب لتغيرت الأحوال.
لأنه قاس ذلك على واقع السجون عندهم، فمن أسلم في السجن لم يعد للجريمة ثانية، بعكس الذي لم يسلم فإنه يعود مرات متتالية.
وفي أحد مؤتمرات الاستشراق، قال بعضهم: لو طبقت أوروبا تعاليم الإسلام، في محاربة الجريمة، لانقادت طوعاً لهذا الدين فهل يعي أبناء الإسلام، هذه الهواجس عندهم، حتى تكون مثالاً لدينهم، بالقدوة الحسنة والمثالية.. نرجو ذلك.
من المعجزات
جاء عند ابن كثير في تاريخه، عند حديثه عن معجزات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حديث رواه الإمام أحمد بسند، إلى عثمان بن حنيف أن رجلاً ضريراً أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله ادع الله لي أن يعافيني، فقال: (إن شئت أخرت ذلك، فهو أفضل لآخرتك، وإن شئت دعوت، قال: بل ادع الله لي، فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أن يتوضأ ويصلي ركعتين وأن يدعو بهذا الدعاء: اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة، إني أتوجه به في حاجتي هذه فتقضى، وفي رواية عثمان بن عمر: فشفّعه فيّ، ففعل الرجل فبرأ) ورواه الترمذي وقال: حسن صحيح غريب.
وروى ابن أبي شيبة بسنده، إلى حبيب بن قُريْط، حدّث أن أباه خرج إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعيناه مبيضتان لا يبصر بهما شيئاً، فقال له: ما أصابك؟ قال: كنت حملاً لي، فوقعت رجلي على بيض حيّة، فأصيب بصري، فنفث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، في عينيه فأبصر، فرأيته وإنه ليدخل الخيط في الإبرة، وإنه لابن ثمانين سنة، وإن عينيه لمبيضتان.
وثبت في الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، نفث في عينيْ علي بن أبي طالب - يوم خيبر - وهو أرمد فبرأ من ساعته، ثم لم يرمد بعدها أبداً، ومسح على رِجْل جابر بن عتيك، وقد انكسرت ليلة قتل أبي رافع، - تاجر أهل الحجاز الخيبري - فبرأ من ساعته، ودعا لسعد بن أبي وقاص، أن يُشْفى من مرضه فشفي.
وأورد أن امرأة خبثت على رجل امرأته، فدعا عليها، فذهب بصرها، فأتته فقالت: يا ابا مسلم، إني قد فعلت وفعلت، وإني أتوب إلى الله، ولا أعود لمثلها، فقال: اللهم إن كانت صادقة، فأردد إليها بصرها.. فأبصرت.
وروى بسنده، إلى أنّ أبا مسلم الخولاني، كان إذا دخل منزله، فإذا بلغ وسط الدار، كبّر وكبّرتْ امرأته، فإذ دخل البيت، كبّر وكبّرت امرأته، فيدخل فينزع رداءه وحذاءه، وتأتيه بطعام يأكل، فجاء ذات ليلة فكبّر فلم تجبه، ثم جاء إلى باب البيت، فكبّر وسلم فلم تجبه، وإذا البيت ليس فيه سراج، وإذا هي جالسة بيدها عود، تنكت في الأرض به، فقال لها: مالك؟ فقالت: الناس بخير، وأنت لو أتيت معاوية، فيأمر لنا بخادم، ويعطيك شيئاً تعيش به. فقال: اللهم من أفسد عليّ أهلي فأعمِ بصيره، قال: وكانت قد أتتها امرأة، فقالت لها: لو كلمت زوجك، ليكلم معاوية، فيخدمكم ويعطيكم؟
فبينما المرأة في منزلها، والسراج مزهر، إذ أنكرت بصرها، فقالت: سراجكم طفئ؟ قالوا: لا قالت: إن الله أذهب بصري، فذهبت في الحال، إلى أبي مسلم تناشده، وتتلطف حتى دعا لها فردّ الله بصرها، ورجعت امرأته على حالتها التي كانت عليها. (البداية والنهاية لابن كثير 6: 361-362).