الإنسان الذي يعشق ماضيه ويحن إليه هو في الواقع يحن إلى أيام صباه وشبابه. ولو عاد أحدنا إلى صباه، لوجد والده - كذلك - يحن إلى أيام جده، وهكذا دواليك. الحنين إلى زمن الشباب، وخاصة عندما يغزو الشيب والتجاعيد الإنسان، حنين إلى أجمل أيام العمر.
الذي يعتقد أن الماضي الذي كان أجمل أو ألذ من الحاضر الذي نعيشه وننعم فيه الآن يُغالط.
كاتب هذه السطور -مثلاً- ولدَ في بيتٍ طيني في حي (دخنة) في الرياض، وكان بيتاً متخلفاً، يفتقر إلى كل أسباب الحياة النظيفة، والصحية، مثلما كانت بيوت كل طبقات المجتمع تقريباً آنذاك. والدي -رحمه الله- رزق باثنى عشر ولداً وبنتاً كما قيل لي، تسعة منهم ماتوا وهم أطفال، وبقي منهم بنت وولدان. وفاة إخوتي كان سببها افتقار المجتمع آنذاك إلى أبسط وسائل النظافة والعناية الصحية. كان موت الأطفال لهذه الأسباب شائعاً. وكان تصميم البيت، وعلاقة أجزائه ببعضها، لا يمت للصحة والنظافة بصلة. حيث الكنيف - أو كما يسمونه آنذاك (البرج) - مُلتصقاً بالمطبخ. وكانت زريبة المواشي والدجاج تشكل مجتمعة جزءاً من البيت يُسمى (القوع)؛ وكانت أسراب (الذباب) تسرح وتمرح ناقلة الأمراض والأوبئة، ومتنقلة بين المطبخ وزريبة الغنم والدجاج والكنيف، ولا يملك الناس إلا التعايش معها.
وكانت الحشرات مثل الصراصير والبعوض والعقارب، وكذلك (الضواطير) والفئران تشارك أهل البيت مسكنهم، وتقتسم معهم ما تجده من غذاء شحيح. لذلك كان التسمم والقيء والإسهال يكاد يكون شيئاً طبيعياً، يتعايش معه الناس مرغمين بسبب انتشار القذارة والوسخ؛ والتفسير المعتاد للذي يصاب بمثل هذه الأمراض (ماكلن ملحوس)؛ أي أن ضاطوراً أو فارة لعقت مما أكل فتسمّم، وكانت مثل هذه الأمراض لا تثير أي قلق بسبب انتشارها.
وكانت المنازل بدائية؛ عبارة عن بيوت طينية، مسقوفة بجذوع الأثل والعسبان، ومكونة في الغالب من دورين. وكان سطح البيت عنصراً هاماً من أجزائه؛ عندما يأتي الصيف ويقسو القيظ يفر الناس إلى سطوح منازلهم للنوم في الليل، هرباً من حر الصيف القاسي، وفي النهار يصبح البيت من الداخل مكتوماً كئيباً لا يطاق، تعج روائح وعرق أهل البيت مختلطة بروائح مواشيهم ودواجنهم، ناهيك عن روائح الكنيف.
وأتذكر أن المطر إذا أتى الرياض، يشعر الجميع بالذعر؛ فالمطر، وخاصة إذا كان (رذاذاً) واستمر يوماً أو ليلة أو أكثر كفيلٌ بتخمير سقف وجدران البيت الطيني، ليكون انهياره على رؤوس ساكنيه احتمالاً وارداً في أي وقت. وكانت الزواريب الضيقة، أو (السكك) كما كان يسميها أهل الرياض، بعد المطر، تتحول إلى مستنقعات، ومع مرور الوقت تتعفن فتبعث منها روائح كريهة. وكان أهل البادية عندما يأتون إلى الرياض (يتلطمون)، حيث إن ريحة الرياض بعد أن يمر على هطول المطر أسبوع أو أسبوعان لا تطاق للقادم من خارجها، أما أهلها فمع التعود لا يشعرون بعفنها.
وكانت الأمراض شبه مستوطنة، ولا يواجهونها إلا ببعض الأعشاب المحلية كدواء وأحياناً بالكي، وهذه العلاجات في الغالب لا تشفي سقيماً؛ لذلك كانت أغلب الأمراض تنتهي بالوفاة. وفي تقديري أن معدلات الأعمار آنذاك كانت منخفضة جداً، قياساً بما هو عليه الوضع الآن.
أما الراحة النفسية التي يزعم البعض أنها كانت أفضل من الآن فهي - أيضاً - ضرب من ضروب الوهم. لو رجع أحدكم إلى الموروث الشعري (العامي)، وتفحّصه، لوجد كماً هائلاً من شكوى الزمان وتقلبه، والضجر منه، ومن قسوته.
وبعد.. هل يُعقل أن يحن (عاقل) لهذه الحياة البدائية الكريهة المتخلفة، التي يلفها الجوع، والأمراض، والقذارة، والمشاكل، والعفن، والمعاناة من كل جانب؟ إنما هو الحنين إلى زمان الشباب. إلى اللقاء.