كتبت - علياء الربيعو
معظم بلدان العالم عرفت مهنة الحكواتي إلا أن أحدا لم يمارسها ويحافظ عليها كما فعل أبناء الشام، فقد بقيت هذه المهنة تلقي بظلالها ومحافظة على تقاليدها وعراقتها لدى المجتمع الدمشقي.
والحكواتي شخصية واحدة جسدها كثيرون على مر عقود من الزمن، وهي مهنة عرفتها بلاد الشام منذ مطلع القرن التاسع عشر، وحظيت بشعبية كبيرة جعلتها جزءاً من التراث الشعبي في هذه البلاد.
عرف المقهى في الشام ابتداء من عام 1750م ومنها عرفت دمشق الحكواتية حيث يجتمع فيه الحكواتي مع الساهرين وتستهل السهرة وتختم بالصلاة على النبي الأمي، وكانوا ينشدون الأشعار ويروون السير و الآلات الموسيقية كالربابة ترافق إنشادهم وأحاديثهم.
يعرف الحكواتي بأنه راوية للسير الشعبية يجلس في مقهى على كرسي وحوله وجهاء القوم ويقوم بسر السير بحيث يتمازج فيها الواقع بالخيال وتضيع معها معالم المدن واسماء الأبطال الحقيقية وتظهر أسماء و أماكن جديدة غير معروفة بل وحدها البطولات هي المعروفة.
عمل الحكواتي كان يتواصل على مدار السنة لكن خصوصيته بالنسبة لشهر رمضان مرتبطة بأن مواضيعه تتناسب مع الشهر الفضيل والقيم التي يمثلها، وهذه القيم عادة ما كان الحكواتي يتحدث عنها وعن فضائلها في رواياته ومجسدة بتصرفات أبطالها. كما أن الصائم بعد الصيام والتهجد والتعبد كان يحتاج إلى وقت للراحة والترويح عن النفس، فكان يجد ذلك في جلسة الحكواتي.
كان الحكواتي يرتجل الحوار ارتجالاً مثيراً للعاطفة منتزعاً إعجاب رواد المقهى الذين كانوا مجموعة من أكابر الناس وبكوات الحارة بالإضافة إلى العامة من الناس.
يقول موفق الديب (60) عاما (في قديم الزمان وقبل اختراع جهاز التلفزيون كان الحكواتي هو مصدر التسلية الوحيد لأهل الحارة) ومن السير التي كانت تستقطب الناس: سيرة أبو زيد الهلالي، الظاهر بيبيرس، عنترة (أبو الفوارس)، سلامة في السيرة الهلالية، الأميرة ذات الهمة وغيرها.
ومن المقاهي التي كانت تعرف الحكواتي: مقاهي حي الصالحية وحي العمارة وحي السويقة ومقهى النوفرة.
الجدير بالذكر أن للحكواتي نصيبا في التاريخ العربي فقد لعب الحكواتي دوراً في الحروب النفسية ضد التتار قبل معركة عين جالوت الشهيرة عام 658 للهجرة، ففي تلك السنة لعب الحكواتي دوره في المعركة حيث قتل الأمير ركن الدين بيبرس مئة جندي من الصليبيين كانوا في طريقهم إلى التتار لمناصرتهم، وألبس بيبرس لباس الحكواتية لمئة جندي من العرب وأرسلهم مكانه لبث الإشاعات في صفوف التتار لبث الرعب في الأعداء بأحاديثهم عن شجاعة العرب.
وقد اشتهر في دمشق عدد ممن عمل في مهنة الحكواتية, ووصلت شهرة بعضهم إلى ذكرهم في الكتب والصحف, وبعد ظهور الإذاعة والتلفزيون هجرها أصحابها لأنهم فقدوا السامعين لهم.
وما زالت هذه المهنة متواجدة في دمشق بالرغم من وجود القنوات الفضائية والإنترنت وجميع وسائل الترفيه الحديثة تقدم فنها وتحكي حكاياتها لمجموعة من ذواقة التراث صحيح أنها قلت واختفت بعض الشيء الا أنه مايفتأ أبناء هذه المهنة العمل على احيائها.
فمثلا الحكواتي رشيد الحلاق (أبو شادي) من أكثر الحكواتية المشهورين في دمشق عاد ليزاول مهنته بعد انقطاع سنين في قهوة النوفرة أحد أشهر المقاهي في دمشق القديمة على أمل إعادة ما تبقى من ذكريات ذلك الزمن الجميل ومرتديا لباس الحكواتية المؤلف من السروال والصدرية والطربوش (أنا الوحيد الذي يمارس في دمشق هذه المهنة وقد عدت إليها بعد طلب من صاحب المقهى وحبا في إحيائها) ويضيف أبو شادي ( أحاول من خلال ما أقصه أن أقدم نصيحة معينة، أو أتلو قصة شعبية تخدم حدثاً يعيشه أهل الحي، أجد فيها عبرة وعظة، محاولاً أن أقوم بدور المرشد الاجتماعي، لكن من خلال القصص الشعبية).
كان الناس في المقهى عند حديث الحكواتي ينقسمون إلى فئة تناصر البطل وتتحمس له وفئة أخرى تعارضه، وهو ما كان يسبب في بعض الأحيان وقوع خلافات بين الطرفين، فيقوم الحكواتي باستغلال ذلك ويحبك القصة ويصعد الأحداث إلى أن تتوقف عند عقدة يكون فيها البطل في موقف حرج على أمل اللقاء بهم في اليوم التالي ليتابع لهم السهرة.
يقول أبو شادي (حدث أن أحد الحكواتية توقف ذات مرة في مثل ذلك الموقف، وترك عنترة يعاني في القصة ما يعانيه. . فما كان من أحد أنصار عنترة وقد طار النوم من عينيه، إلا أن توجه ليلاً إلى دار الحكواتي، وأيقظه متوعداً ومهدداً، إذا لم يخرج البطل من ذلك الموقف......!).
يقول م حمد 45 عاما وهو أحد العاملين في مقهى النوفرة (في الماضي كان جمهور المقهى قاصراً على كبار السن و حكراً على الرجال أما في الوقت الحالي فالأمور اختلفت كثيراً فالنساء والرجال أصبحوا يجلسون معاً بالمقهى ويستمعون للحكواتي وهم يرتشفون الشاي والقهوة ويدخنون الأراكيل أيضاً) أما أجرة الحكواتي فيتقاضاها من صاحب المقهى, لكن ما يجود به رواد المقهى على الحكواتي (نقوط) فهو يشكل مصدر دخل جيدا ولاسيما إذا كان الزبون راضيا عن النهاية التي ختم بها الحكواتي مصير بطل القصة.
في الختام يجدر لفت النظر بأنه صحيح أن البعض يعمل على إحياء هذه المهنة إلا أنها تأخذ شكلا تجاريا أكثر من كونها عادة أو فلكلور شعبي نشأ لتسلية الناس وإمتاعهم في زمن لم تتواجد فيه أي من أنواع التسلية وخاصة في شهر رمضان، فبعد أن كانت هذه التسلية تقدم للفقراء والأغنياء لعامة الشعب وخاصته أصبحت الآن تقدم للأغنياء وميسوري الحال في فنادق الخمسة نجوم والمقاهي ذات الأسعار السياحية ما يؤكد أن هذه المهنة قد انقرضت وبقيت ذكرى يعتاش البعض عليها.