يا له من يوم مأساوي عظيم قلب موازين فكري وقلبي وغير مجراهما إلى الأبد، حين وقفت مذهولاً غير مصدق أمام امرأة عجوز تعشش الفوضى في ثوبها الرث البالي المرقط بقطع صغيرة ذات ألوان غير زاهية وغير جذابة، حذاؤها ملطخ بالوسخ .
ويشع من نظراتها حنق وتعاسة، وجهها شاحب بلون الرماد مثير للشفقة، أنفاسها لاهثة تنم عن مرض مزمن، و ضعت يدي على خدي طويلاً واستسلمت لحزن عميق وأسف قاتل وبكيت حتى تورمت عيناي وتهدج وجهي واحمر أنفي، اقتربت منها بحذر شديد دون أن تشعر وهي تتكي على برميل الزبالة العتيق تقتات من المارة شيئاً يسد حاجتها فتعالى صوت البرميل المتهالك أصلاً، اخترق أذاني صوت صراخ مرعب كالسهم ليتراءى لي مشهد طفل صغير بجوار هذه العجوز ليصبح المنظر عندي أكثر مأساوية وأكثر حزناً وأجلّ أمراً، قبضت على وجهي بكلتا يداي بقوة متناهية وغرزت أظافري في لحم وجهي مرارة وحنقاً صرخت جازعاً ماذا تفعلين هنا أيتها المرأة العجوز؟ انتفضت وعدلت من وضعيتها وأشارت لي بأن أسمع وأعي وأدرك، قالت لي: (ليس لي وحفيدي هذا حلاوة الأحلام ويخامرني شك مطلق بالواقع يحرمني رؤية الأشياء الجميلة والبهيجة وسماع الأصوات الرخيمة، المدينة كما تراها رائعة جذابة كثوب عروس أبيض شوارعها فسيحة وأشجارها باسقة وسياراتها الفارهة لها هدير متواصل صباح مساء، أضواء الأنوار وألوان النيون الملون وواجهات المحلات الفاخرة لها هالة عجيبة كهالات النجوم في ليل صحراوي نقي، على حين غره دخل حياتنا شيء هلامي أشعث أغبر فظ غليظ حاد كالسيف سام كالعقرب وحش لم يلبث أن حول حياتنا إلى عوز مقيت وذلة مريرة وأخذ يعبث ويغوص بنا في مستنقعات آسنة وينزع عنا غطاء الستر كما ينعم به الآخرون هذا اللعين أطبق علينا وعلى جوارحنا و نطحنا برأسه حتى خارت قوانا وحولنا إلى هياكل آدمية وطرحنا أرضاً ودك تخومنا دكاً بربرياً وأسبل علينا ثياباً بالية كما ترى وأشهر علينا سكاكينه الحادة ورصاصاته القاتلة، إنه الفقر الذي دب فينا والعفن الاجتماعي والتبلد الحسي وقوقعه الإنسان على نفسه ليتركوننا أمام هذا الوحش وجهاً لوجه نعاني ما نعاني) زمت شفتيها وكزت أسنانها وهي تدك برجليها الأرض بقوة وتردد سجل أيها الرجل الغريب أنشودة الإعياء والفقر:
(اسمي حمده
ولي من السنين ستون
أنجبت ولداً واحداً ومات
وترك لي من الأحفاد ثمانية
سجل
اسمي حمده
أشباهي كثيرون
وأعرف منهم
مائة وثمانية
سجل
اسمي حمده
جشع التجار يكبر
وأنا أضمر
وحال أحفادي يقهر
يمشون بأقدام حافية
سجل
اسمي حمده
ما عندي ضمان اجتاعي
يساعدني
وأحفادي
ووزارة الشؤون الاجتماعية نائمة
سجل
اسمي حمده
أحب وطني كثيراً
لكني أحب أكثر
الملك الإنسان عبدالله)
أخذت العجوز الطفل البائس وهو يغلي ببكاء موجع وعبرت الشارع الآخر بفوضى.
ranazi@umc.com.sa