كنت قد كتبت عن (اللفتة) المتحضرة التي اتخذتها هيئة الأمر بالمعروف في المنطقة الشرقية، عندما قام بعض أعضاء الهيئة هناك بتوزيع الحلوى والهدايا على المواطنين، واعتبرتها مؤشراً على أن هذا الجهاز بدأ يحس بمعاناة المواطنين وتذمرهم.
ولم يكد حبر المقال يجف حتى نشرت جريدة (الوطن) خبراً عن مطاردة بين عضوين من أعضاء الهيئة في المدينة ومواطن وزوجته، اشتبها فيهما بتهمة: (الخلوة الشرعية)، ثم اكتشف المطاردان - كالعادة، وبعد أن تعمَّد عضوا الهيئة (صدم) سيارة المتهمين وإيقافها بالقوة -، أنهما (واهمان)؛ الأمر الذي حدا بأحد أقارب الزوج إلى مهاجمة أحد مراكز الهيئة في حي من أحياء المدينة، وهذا مؤشر في منتهى الخطورة، فعندما يلجأ الناس إلى أخذ حقوقهم، أو الدفاع عن خصوصياتهم، (بأيديهم)، فلا بد من أخذ الأمر بمنتهى الجدية.
ومن يزعم أن مثل هذه التصرفات، وانتهاكاتهم لحقوق الناس، والتجسس عليهم، و(قطع طرقاتهم) لتفتيشهم، وهتك أسرارهم، نابعة من الدين القيم، أو منتمية إليه؛ فقد افترى على الشريعة، خذوا - حفظكم الله - ما تقوله الشريعة:
أولاً: نهى جل وعلا عن التجسس، ومراقبة الناس، وتتبعهم، وهتك أستارهم، حتى وإن كان بنية الإصلاح، يقول في كتابه الكريم: (وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ).
ويفسر ابن كثير هذه الآية بتفسير طويل، جاء فيه بعضُ النصوص النبوية التي تقول: (أتى ابن مسعود - رضي الله عنه - برجل فقيل له: هذا فلان تقطر لحيته خمراً، فقال عبدالله - رضي الله عنه -: إنا قد نُهينا عن التجسس، ولكن إن (يظهر) لنا شيء نأخذ به)! أي أن المحتسب ليس له إلا الظاهر. كما أورد ابن كثير في موضع آخر: (وعن دخين كاتب عقبة، قال: قلت لعقبة: إن لنا جيراناً يشربون الخمر وأنا داع لهم الشرط فيأخذونهم، قال: لا تفعل، ولكن عظهم وتهددهم. قال: ففعل، فلم ينتهوا. قال فجاءه دخين؛ فقال: إني قد نهيتهم فلم ينتهوا، وإني داع لهم الشرط فتأخذهم. فقال له عقبة: ويحك لا تفعل فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (من ستر عورة مؤمن فكأنما استحيا موءودة من قبرها..).
ثانياً: اتفق الفقهاء على (حرمة) إزالة المنكر إذا ترتب على إزالته منكر أكبر من المنكر المطلوب إزالته، كما في (الفروق) للقرافي 4-255 مثلاً، يقول ابن تيمية في هذا الخصوص: (وجماع ذلك داخل في القاعدة العامة فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد والحسنات والسيئات أو (تزاحمت)، فإنه يجب ترجيح الراجح منها فيما إذا ازدحمت المصالح والمفاسد وتعارضت المصالح والمفاسد، فإن الأمر والنهي وإن كان متضمناً لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة، فينظر في المعارض له، فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر، لم يكن مأموراً به، بل يكون (محرماً) إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته).
ثالثاً: التثبت في إطلاق التهم، والتثبت منهج من مناهج العقلاء، وهو لذوي الحسبة شرط (ضرورة)، لا يستقيم للمحتسب أمر ولا نهي إلا به، فالعجلة والاندفاع و(الطيش) هما من خوارم العمل الحسبوي.
رابعاً: الرفق واللين والحكمة. يقول أحد الباحثين: (إننا في حاجة للحكمة عند الأمر بالمعروف، ولكننا أحوج إليها عند إنكار المنكر).
والسؤال الذي ينتهي إليه هذا الموضوع: هل هذه الضوابط - بالله عليكم - (معتمدة) لدى رجال الهيئة؟ أترك الحكم لكم. إلى اللقاء.