بإمعان النظر في المد الحضاري العربي في فضاء الحضارة الإنسانية تجد الفن شاخصاً في وجودك وإن شرق غاية وتسامى رقياً وارتفع مسلكاً.
والدخول في الفن ليس عن طريق العادة أو سباق التقليد لكنه انطلاق قيمي وتحرر نموذجي مثالي معياري.
هذا الانطلاق يأتي من مرسل واع إلى مرسل إليه متعطش للتلقي يدور حول نقاط ثلاث أساسية في منظومة الفن باعتبارها نسقاً اتصالياً؛ النقطة الأولى فيه تتعلق بالسياق الموضوعي الذي يتلقفه المتلقي بالتأويل والتحليل، والنقطة الثانية هي الرمزية وهي مادة إتقان بين المرسل والمتلقي يمكنه من خلالها بلوغ الوعي والإدراك لما في السياق، والنقطة الثالثة وسيلة الاتصال وهي منظومي (حكي) لفظي وحركي تأثيري حسي أو نفسي. إنه منظومة الفن هذه تنتظم للربط بين المرسل والمتلقي تمكنهما من الاستدماج ليظلا في حالة (اتصال) مثير... فاستجابة.
وما يجدر ذكره أن أي شكل من أشكال الفن محتوم عليه أن يظل في دوران حول النقاط الثلاث الأساسية لتتحول بموجبه وظيفة الفن من الأداء التقليدي المجرد إلى الأثر الجمالي الأخاذ المتميز.
كيف يحدث هذا في فنون الدراما، يحدث من خلال حركة ارتدادية مؤداها نقل الفكرة إلى المتلقي عن طريق التأويل التحليلي والفهم الواعي لمعاني الرمز وما يحتويه الذي يعني تجسيد الفكرة وتحقيق وجودها.
ويسوق هذا إلى الذوق الفني الذي يظهر في المسلكيات الأدائية، كفعالية ممتدة لا تحدث بشكل فردي أو انعزالي بل تحدث بشكل متداخل يتولد عنه العمل الإبداعي، وما يطلق عليه في الفن المعاصر بالتجربة الإبداعية.
نسوق هذا القول بمناسبة ما طالعتنا به جريدة الجزيرة في صفحتها الفنية حول عرض سينمائي جماهيري، وتحت العنوان ورد ما يفيد أن روتانا المنتجة للفيلم السعودي (مناحي) عن عرض فيلمها في الرياض كأول فيلم سينمائي سعودي يعرض جماهيرياً داخل المملكة. وتذكر الشركة أن الفيلم انتهت مراحل تجهيزه النهائية في القاهرة منذ أيام وهو من بطولة الكوميدي السعودي فايز المالكي، ومنى واصف وعبدالإمام عبدالله، وآخرين، والفيلم من تأليف مازن طه، وإخراج أيمن مكرم. كما أعلنت الشركة عن عرض الفيلم في الرياض علاوة على عرضه في كل من القاهرة ودبي والبحرين.
ويدور الفيلم حول شاب سعودي من أصول بدوية أعزب يعيش مع والدته، يقرر السفر إلى دبي حيث يتعرض لكثير من المواقف الطريفة وذلك نتيجة الفجوة الحادثة في أسلوب وطريقة الحياة والسلوك العام ونمط المعيشة.
ويذكر أن أغاني الفيلم من ألحان الفنان السعودي ناصر الصالح وغناء المطرب علي بن محمد.
وهذا يوضح أن المملكة العربية السعودية تقدر قيمة الفن ما دام يعبر عن سياق أخلاقي يوجه مثالياته ويتحكم في صورته الحركية التي يسهل فهمها وتفسيرها ومعناها الدلالي، وهذا هو سحرها الذي يخلب النفوس ويستدمجه في داخله فارضاً مفردات ثقافتنا عليه.
إذن نحن لا نجهل قدر الفن، ولا نجهل قوانينه ولا نجهل سماته الخاصة ولا نجهل الذوق الذي يتخلله وجوداً في داخله.
وكما سلف القول فالفن علاقة بين مرسل ومتلقي قابلة للتطوير والتغيير، مع الوضع في الاعتبار أن التغير من طرف واحد يعتبر مجرد محاولة تتحدد قيمتها في تغيير الطرف الآخر الذي بمقتضاه يحدث التطور الفني الذي يتلاقي فيه الزمن بكل أبعاده والمكان بقدسيته وعبقريته، وبتلاقيهما وتفاعلهما يحدث إنهاض النفوس وما يستتبعها من مسلكيات التوافق أو اللاتوافق -المتمثل في فعل شيء أو تركه- نظراً لأن الإبداع يتحقق بتفعيله في السياق والأداء والنمذجة لإمكانية الاعتماد عليه والرجوع إليه معنى وأسلوباً ونظاماً.
ففيما يتعلق بالفن عموماً وبالفن الدرامي وملحقاته خاصة أنه يرقى بالنفس البشرية ويحقق أهدافه التربوية والتثقيفية والاجتماعية عن طريق تشخيص ومعالجة المعضلات الاجتماعية التي يمكن لها أن تعترض مسيرة المجتمع النهضوية.
وهذا يوضح أن ثمة ترابطاً بين مرامي الفن وقيم الحياة والمسلكيات الأدائية ولا يقتصر -كما يقول البعض- على معالجة المشكلات الوجدانية العاطفية لتخفيف هموم الناس ولا يتعرض إلا لمواقف سطحية دون التعميق السببي.
ونقول: نعم في بعض الأعمال الفنية -نظراً لاختيار عناصرها واختيار سياقها واختيار توجهها- فإذا وقفنا على هذه البنية التركيبية للعمل الفني لوجدنا الأجوبة الدلالية.
هذه الأجوبة ذات الدلالة توضح إمكانية التحقق من خلال التعرف على عناصر البناء في العمل الفني- ونضرب مثلاً بالعمل السينمائي: فمن عناصره ذات الأهمية في تحديد المستوى الفني للفيلم: الرؤية الفكرية التي تعبر عنها في (سياق) الفيلم، يلي ذلك عبقرية السيناريو التي يعتمد عليها عملية الإبداع في الإخراج ثم حسن أداء القائمين بالعمل. وقبل ذلك كله موضوعية الفكرة تلك التي يعبر عنها المشاهد بعمقها أو سطحيتها، ومدى تحقيقها للهدف من عرضها، وإثرائها لعقلية المشاهد، وإمكانية استنطاقها للحياة الاجتماعية ومعالجة مشكلاتها بذكاء فني، فهي لب وضع العمل الفني وسر سحره وافتتان المشاهد به مما يجلب له الراحة النفسية والاستمتاع بوقت المشاهدة والتواصل.
وفي ختام مقالي هذا وبمناسبة الإعلان عن أول عرض سينمائي جماهيري داخل المملكة أهيب بقارئي العزيز أن يتبرأ من عقدة السينما، وأن نوافق على منح هامش معقول من حرية الانطلاق السينمائي ما دامت أعمال لا تؤثر بالسلب على قيم المجتمع وثقافته وعلى الأمن الاجتماعي، والصالح العام، وأن تكون معبرة عن الصدق الإنساني والفني ومجسدة لقيم المجتمع وثوابته.