Al Jazirah NewsPaper Sunday  05/10/2008 G Issue 13156
الأحد 06 شوال 1429   العدد  13156
التوقيعات

تأليف الدكتور عبدالله محمد باشراحيل

دراسة وتعليق حنان عبدالعزيز آل السيف

الطبعة الأولى عام 2002م المؤسسة العربية للدراسات والنشر - لبنان - بيروت، الأردن. عمان.

يحفل النثر العربي القديم بعناية فائقة، واهتمام واضح، من قبل الباحثين والدارسين العرب، وهم بذلك يعيدون الحياة، ويبثون الروح فيه من جديد، وفنون الأدب العربي النثرية كثيرة جداً، ولعل من أهمها (فن التوقيعات) وهو فن بليغ بلغ فيه الأدباء العرب الغاية والقمة، وهو فن من فنون الأدب الفارسي القديم، ووجد في الأدب العربي من بزوغ فجر عصر صدر الإسلام، ولهذا القول مناسبة وهو ما نسجه يراع الأديب الأريب، والشاعر اللبيب، الدكتور الفاضل: عبدالله محمد باشراحيل، وذلك حينما بث الحياة في هذا الفن، بتوقيعات راقية، وكلمات شائقة في كتابه الرائد: (التوقيعات) ولا بد في هذه العجالة من الإشارة إلى تاريخ هذا الفن الفريد من منوال حديث الدكتور الفاضل: محمد عبدالمنعم خفاجي في كتابه (الأدب العربي وتاريخه في العصرين الأموي والعباسي) حيث أشار في حديثه إلى أن هذا الفن الأدبي يعده الدارسون لوناً رائعاً من ألوان الكتابة الأدبية النثرية، وهو عبارة موجزة بليغة يكتبها الخليفة أو الأمير أو الوزير في أسفل الكتب والقصاصات الواردة إليه، حيث يبدي الرأي فيما يرفع إليه من شكوى، ويقدم له من رجاء، ويستشار فيه من أمر، وورد في كتب اللغة القديمة التفسير اللغوي لمفردة التوقيع، ففي لسان العرب لابن منظور إشارة إليها، وذلك حين قال في (10 - 288): (التوقيع في الكتاب إلحاق شيء فيه بعد الفراغ منه، وقيل هو مشتق من التوقيع الذي هو مخالفة الثاني للأول، قال الأزهري: توقيع الكاتب في الكتاب المكتوب أن يجمل بين تضاعيف سطوره ومقاصد الحاجة ويحذف الفضول وهو مأخوذ من توقيع الإبر ظهر البعير، فكان الموقع في الكتاب يؤثر في الأمر الذي كتب الكتاب فيه ما يؤكده ويوجبه، والتوقيع ما يوقع في الكتاب).

وتروي كتب الأدب أن أول توقيع عرف في تاريخ الأدب كان للخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وذلك حين كتب إليه الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يستأذنه في بناء فوقع له عمر: (ابن ما يكنك من الهواجر وأذى المطر) ودوت كتب الأدب العربية القديمة كثيراً من توقيعات الخلفاء الراشدين والأمويين، غير أن هذا الفن نضج واستحكم واشتد عوده، وقوى نفوذه في عصر نفوذ الخلفاء، حيث نبغ فيه كثير من خلفاء بني العباس، وعديد من وزراء دولتهم، ورؤساء حكمهم، وبالتالي تنافس الكتاب في إجادته وتحسينه، وتباروا في بلوغ أقصى الغايات فيه، ومن الخصائص الفنية والسمات النثرية التي ظهرت في توقيعاتهم دعوة الإيجاز، وقوة التعبير، وجمال التصوير، وشدة التأثير، ولطف الإشارة، وكانت توقيعاتهم عبارة عن مثل عربي أو حكمة سديدة، أو آية قرآنية كريمة، أو حديث نبوي شريف، أو بيت من أبيات الشعر الفصيح، واهتم الأدباء الناشئون، والكتاب المميزون بحفظها وروايتها وجمعها، وكانوا يبذلون في سبيل الحصول على نماذج التوقيع المال الكثير، الذي يتراوح من الدراهم الواحد إلى العشرين درهماً.

ومن نافلة القول التمثيل على توقيعات تميزت بالإيجاز والجمال والقوة، ومنها ما وقع به السفاح كتاباً لأبي جعفر وهو يحارب ابن هبيرة بواسط: إن حلمك أفسد علمك، وتراخيك أثر في طاعتك فخذ لي منك، ولك من نفسك. ومنها أيضاً ما وقع به أبو جعفر المنصور في كتاب عبدالحميد صاحب خراسان: شكوت فأشكيناك، وعتبت فأعتبناك، ثم خرجت على العامة، فتأهب لفراق السلامة، ووقع إلى صاحب مصر حين كتب يذكر نقصان النيل: طهر عسكرك من الفساد، يعطيك النيل القياد، ووقع في كتاب أتاه من صاحب الهند يخبره أن جنداً شغبوا عليه، وكسروا أقفال بيت المال: لو عدلت لم يشغبوا ولو وفيت لم ينهبوا.

ووقع هارون الرشيد إلى صاحب خراسان: داو جرحك لا يتسع، ووقع في نكبة جعفر بن يحيى، أنبتته الطاعة وحصدته المعصية، ووقع المأمون إلى الرسمي في قصة من تظلم منه: ليس من المروءة أن تكون آنيتك من ذهب وفضة وغريمك خاو، وجارك طاو، ووقع في قصة متظلم من أبي عيسى أخيه: (فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون)، وكتب إليه إبراهيم بن المهدي: إن غفرت فبفضلك، وإن خذت فبعدلك، فوقع في كتابه: القدرة تذهب الحفيظة، والندم جزء من التوبة، وبينهما عفو الله، ووقع في رقعة مولى طلب الكسوة: لو أردت الكسوة للزمت الخدمة، ولكنك آثرت الرقاد فحظك الرؤيا.

ووقع جعفر بن يحيى في قصة محبوس: العدل أوثقه، والتوبة تطلقه، ووقع في كتاب رجل شكا إليه بعض عماله: قد كثر شاكوك، وقل شاكروك فإما اعتدلت وإما اعتزلت. ووقع في قصة مستمنح قد أعطاه مراراً: دع الضرع يدر لغيرك كما در لك.

وبعد هذه الوقفة على نماذج من فن التوقيعات وذلك الفن الذي عفا وأكل عليه الدهر وشرب، يتخذ الحديث عن فن التوقيعات مساراً آخر وهو دراسة فن التوقيعات في العصر الحديث، وهذا الكتاب الذي بين يدي يتحفك بنماذج مثيرة وممتعة من حسن السبك، وقوة المزاوجة والموافقة بين الألفاظ، والقدرة الدقيقة على التعامل مع الحرف العربي، ومن هذا المنبر نرى أهمية بث الروح، ونفث النفس في هذا الفن النثري الذي ما زال ينتظر يداً بيضاء، كريمة العطاء، لتزيل عنه غباراً تراكم عبر السنين والأحقاب المتواترة.

وهذا الأدب يضرب بجذور راسخة وعميقة في صميم تاريخ الأدب الفارسي القديم، والذي منه انتقل هذا الفن إلى الأدب العربي القديم، سيما أن إعادته بنفس وروح العصر الحديث، تضفي عليه أصالة وتحديثاً، وهذا ما تناوله ويغلب على هذه الرؤية التفاؤل وحب المستقبل والأمل وسعة الأفق، وفسحة الخيال. ليتحف قارئه ويسير به في عوالم عدة تحكي له ما يعتمل في وجدان منشئها، وتحكي هذه التوقيعات قصة المثالية والنبراس والاقتداء بمن هم أولى وأكمل منا، وتأمل هذه التوقيعات المساقة لترى هل أنا على صواب؟ أو تتخذ لنفسك طريقاً آخر تحدد معالمه وتبني أسسه من محيط عقلك ونفسك ووجدانك.

جاء في هذه التوقيعات ما نصه: (الإنسان يجرح جمال الخلق بالغضب)، (القهر قنبلة مؤجلة)، (الموت حقيقة النضوج المعرفي للذات)، (كثير من الآلام صنعت الآمال)، (لا تتماثل الأشياء ولكنها تتشابه)، (السماح أريج النفوس), الأسى يترسب كالشوائب التي تبقى في قعر الكؤوس)، (الحظ جنين يولد بلا ميعاد), الحقيقة ليست غائبة ولكنها مهملة), لا تضع المبدع في قفص العتمة),اكتب تاريخك تضيء شمعة)، (الغربة دموع الفراق), لا بد لكل شاعر من (ابن جني) ولي وقفة حوارية عند هذا النموذج التوقيعي التي تولد عن منشئ الكتاب (حفظه الله) وأتساءل: ماذا يقصد المؤلف بهذه القولة؟ وإلى ما يهدف من سياقها؟ هل يقصد أن (ابن جني) كان محباً للمتنبي متعصباً له، وتمخض عن هذا الحب ما كتبه (ابن جني) من مؤلفات ساعدت في إضفاء سمة البقاء والخلود على ذلك الشعر الذي نظم ليحفر في ذاكرة الناس، أم أنه يريد أن يشير إلى دور (ابن جني) في الغوص في أعماق الود والاحترام والإعجاب من قبل عالم ضليع كابن جني، وهنيئاً لابن جني بعشق هذا الشاعر، والذي تحول إلى عشق نظري مكتوب، وجادت أنامله بهذه المؤلفات والتي تعد بحق من أنفس ما كتب عن المتنبي مالئ الدنيا وشاغل الناس. وهذا التوقيع تبدو فيه ظاهرة التزاوج بين الماضي التليد، والحاضر المشرق، فما أحرى كل شاعر حديث بناقد ملهم خبير ماهر كمهارة (ابن جني) على شرط أن يكون من عالم الأحياء، ووديان البقاء لا أن يكون من عباقرة ورؤوس وادي عبقر الذي لا وجود له، ولا يمت للحياة بصلة، وأخيراً فقد أتحفنا الكتاب والكاتب، وأمتعنا الأدب والأديب، وليت مؤلف الكتاب قدم له بمقدمة تطلع القارئ على تطلعاته ومرئياته، ولا أدري ما سبب حجب المقدمة من الكتاب. بارك الله في أدبائنا قولاً ومقاما وحدثاً وحديثاً، ولفظاً ومعنى.

مصادر الدراسة ومراجعها:

- الأدب العربي وتاريخه في العصرين الأموي والعباسي. تأليف الدكتور محمد عبدالمنعم خفاجي. الطبعة: 1410هـ - 1990م. دار الجيل بيروت. لبنان.

- لسان العرب لابن منظور. الطبعة: مصورة عن طبعة بولاق، وهي صادرة عن الدار المصرية للتأليف والترجمة.

- تاريخ الأدب العربي للمدارس الثانوية والعليا. تأليف الأديب أحمد حسن الزيات. الطبعة الخامسة سنة 1419هـ 1999م - دار المعرفة - بيروت- لبنان.




 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد