الجزيرة - د. حسن الشقطي
أزمة مالية عاتية يمر بها الاقتصاد الأمريكي ما بين مؤسسات منهارة فعلياً وأخرى معرضة للانهيار، تبعها إقرار أكبر خطة إنقاذ في التاريخ تفاءل بها الجميع لإنقاذ ليس الاقتصاد الأمريكي وحده بل الاقتصاد العالمي حيث إن الروابط بين الاقتصادات العالمية أصبحت من القوة، ولكن الأمر لم يعد مجرد انهيار وإنقاذ فقط، بل أصبح تخلياً عن أيدلوجية لم تلبث الولايات المتحدة أن فرضتها على العالم بأجمعه هي أيدلوجية الحرية الاقتصادية، فكيف تحولت الولايات المتحدة من مدافعة عن الاقتصادات الحرة إلى مدافعة عن دعم المؤسسات الخاصة الفاشلة؟ فكثير من الدول العربية خسرت كثيراً في سياق تطبيقها لبرامج الإصلاح أو التحرير الاقتصادي بحيث تخلت ليس عن مؤسساتها الخاصة ولكنها قامت بتصفية كيانات حكومية ضخمة نتيجة تمسكها بعدم دعمها ومساندتها، واليوم الولايات المتحدة تدعو ليس لدعم حكومي أو دعم مواطنين ولكن إلى دعم مؤسسات خاصة فاشلة، فهل انقلب السحر على الساحر؟
وتتمثل أزمة اليوم في انعدام ثقة المودعين في المؤسسات المالية وانعدام ثقة هذه المؤسسات في إقراض المواطنين، لدرجة بدأ معه توقف الكثير من المؤسسات عن العمل، ومن ثم ظهور بوادر ركود عام وفقدان وظائف (بلغ خلال شهر سبتمبر فقط 159 ألف وظيفة). وهذه الثقة كانت بمثابة الدماء التي يسير بها الاقتصاد الأمريكي. وتركز خطة الإنقاذ التي تم إقرارها قيام الحكومة بشراء كافة الأصول السيئة أو السامة أو المنعدم الأمل في تحصيلها بحيث تعيد الثقة إلى المؤسسات المالية وخاصة المصرفية منها التي تقوم بالإقراض والاقتراض من المواطنين والمؤسسات الأخرى.
وكل ذلك يجعل من الصعب تشخيص الحالة المرضية التي يمر بها الاقتصاد الأمريكي والتي يمكن حصرها في ثلاث احتمالات: إما مجرد أنها أزمة طارئة يمكن تجاوزها أو سرطاناً يصعب شفاؤه أو شيخوخة وانتهاء حقبة إمبراطورية. ولمعرفة أي من هذه تنطبق على الاقتصاد الأمريكي ينبغي مراجعة بعض أهم المؤشرات الاقتصادية لنخلص للسبب حيث نجد:
1 - ارتفاع معدل البطالة من 4.8% في أكتوبر 2007 إلى 6.1% خلال الشهر الحالي.
2 - الميزان التجاري وأيضاً الميزان الجاري يحققان أوضاعاً سلبية منذ أكثر من 10 سنوات.
3 - منذ بداية عام 2006 أصبح الاقتصادان الألماني والياباني يسبقان الاقتصاد الأمريكي في أهم مؤشر اقتصادي تقريباً وهو الناتج الصناعي، حيث تشير أرقام يوليو 2008 إلى أن الاقتصاد الألماني يسجل 199.4 في حين يسحل الياباني 118.1، في حين يسجل الأمريكي 111.8 فقط (أرقام قياسية).
4 - سجل الاقتصاد الأمريكي ثالث أعلى اقتصاد من حيث أسعار المستهلكين، حيث سجل في يوليو 2008 رقماً يعادل 219.96، في حين لم يزيد هذا الرقم عن 121.1 في الاقتصاد الياباني، وحوالي 165.4 في الألماني. 5. رغم ذلك فلا تزال معدلات الابتكار والتطور التكنولوجي في الولايات المتحدة هي الأعلى عن غيرها.
وعليه، فهناك اعتقاد أن انهيار المؤسسات المالية الأمريكية هو نتيجة لفساد مالي أصبح يتسم بملامح عالية التقنية، وهو ما يستدعى طرح عدة أسئلة، ماذا إذا فشلت خطة الإنقاذ الحالية؟ ماذا إذا لم تستطع إعادة الثقة المفتقدة؟ ماذا إذا لم تكف الـ 700 مليار دولار لشراء الأصول المسممة؟ ماذا إذا خرجت من الكهوف مؤسسات مالية وغير مالية أمريكية أخرى وصرخت أو ادعت أنها معرضة للانهيار؟ هل باستطاعة البيت الأبيض تدبير أية أموال إضافية لإقرار أي خطط إنقاذ جديدة؟
إن أمريكا تكاد تكون قد فرضت مبادئ الحرية الاقتصادية على العالم أجمع، فلا يوجد دولة لم تجد لها بداً من الانضمام لمنظمة التجارة العالمية حيث ينبغي على الجميع أن يأخذ بمبدأ (دعه يعمل .. دعه يمر)، هذا هو الشعار الرسمي للحرية.. لا تدخل في الاقتصاد.. لا دعم ولا إعانة.. والقطاع الخاص ينبغي أن يكون هو السائد والمسيطر وينبغي أن لا يكون هناك دور للحكومة.. ولكن في الوقت الذي يأخذ فيه الجميع بتلابيب هذه الحرية ويهرولون لتطبيقها رغم مآسيها وآثارها السلبية عليهم، فإن أمريكا تتراجع عن كل مبادئها وحرياتها وتقر خطة للتدخل الصريح ليس لدعم الحكومة ولكن لدعم قطاعاتها المالية الخاصة الخاسرة أو المنهارة.. إن مبادئ الحرية يفترض أن تمنع نهائياً تدخل الحكومات لمساندة مواطنيها أو شركاتها العامة.. بل تفرض على كل دولة أن تضع مواطنيها وشركاتها في مهب قوى العرض والطلب للتفعيل والحفاظ على معايير الكفاءة السوقية، هذا الدعم يمنع انهيار هذه المؤسسات وبالتالي سيساند كافة اقتصادات الدول الأخرى، ولكنه في الوقت نفسه يخل بمبادئ السوق، هذه الخطة ستقدم دعماً لكل فاشل، في حين أنها قد لا تقدم شيئاً لكل ناجح. وهذا يعيد عقارب الساعة للعام 1944 الذى خرجت فيه أمريكا كأكبر منتصر من الحرب العالمية الثانية وأقرت نظاماً جديداً في بريتون وودذ وسارعت بإلغاء قاعدة الذهب واستبدلتها بعملتها الدولار الذي يواجه منذ 2003 تقريباً أزمة بعد أزمة، ومع ذلك لا يزال يقود النظام العالمي. وهذا الواقع يؤكد أن النظام العالمي في حاجة إلى نظام بديل عن الدولار المتقهقر الذي بات يتسبب في إلحاق ضرر بالغ به يوماً بعد يوم. ولكن مع ذلك لا يستطيع أحد اقتراح النظام البديل.. فما هو النظام الذي يمكن أن يحل محل الدولار؟ هل يكون العودة للذهب؟ أم هناك دولة أم مجموعة دول قادرة على إحلال عملاتها محل الدولار؟ وما هو مصير المرتبطين به؟