يؤكد كثير من المراقبين السياسيين الذين لم تستغرقهم اللحظة العابرة في الحرب على العراق، على وجود ثلاثة أهداف مهمة ومحددة، هي ما تريده أمريكا من احتلالها العراق: العقيدة، والنفط، وتغيير خريطة المنطقة وهي جزء من نظرة إستراتيجية للإدارة الأمريكية، من أجل وضع يدها على واقع المنطقة ككل..
.. وهو ما عبر عنه الرئيس الأمريكي (جورج بوش) في خطابه أثناء احتفال البحرية الأمريكية في فلوريدا، يوم 13-2-2003م، بقوله: (نرغب أن نكون بلداً فوق الجميع)، فانحاز إلى الطرق العسكرية بدلاً من الأساليب السلمية، واستغل المبدأ المعروف في علم الإستراتيجية ب (استغلال الفرص السانحة)، ومفاده: الاستمرار في تهيئة الظروف للخطط حتى يحين وقت تنفيذها.
ما يهمني في هذا المقال هو: التأكيد على البعد العقدي في احتلال أمريكا للعراق، وهو ما ترجمته قبل أيام - مرشحة الحزب الجمهوري لانتخابات الرئاسة الأمريكية لنائب الرئيس- (سارة بايلن) في إحدى الكنائس، حين قالت: (صلوا من أجل جنودنا الذين ينشدون فعل ما هو صحيح لهذا البلد، قيادتنا الوطنية أرسلتهم في تكليف من قبل الرب)، إذن لم تفعل الولايات المتحدة الأمريكية سوى تنفيذ خطة الرب، لأن الحرب مكتوبة منذ العهد القديم في كتبهم المقدسة، والتي تدين العراقيين بالإجرام في حق (الشعب المختار) بأكثر من أربعة آلاف عام.
وهو ما يفسر لنا الموقف العدائي الغربي البروتستانتي من العراق، وما يعبر عنه أيضاً القادة الأمريكيون الذين يوصفون بأنهم من الإنجيليين الجدد، فيصرون مع اليهود على تفتيت وحدة العراق وتفكيكه ودماره، لضمان مستقبل إسرائيل، وصراعها العقدي مع خصومها، وهو ما أكده (باتريك بيوكانان)- المرشح السابق للانتخابات الأمريكية -حين جعل إسرائيل محوراً لاهتمام العالم، وجعل العراق أهم خطر على ذلك المحور حتى قيام الساعة، وقد نشرت مجلة (كيفويم) الإسرائيلية عن تقرير للمنظمة الصهيونية العالمية بالقدس، جاء فيه: (أما العراق فهي غنية بالبترول، وفريسة لصراعات داخلية، وسيكون تفكيكها أهم بالنسبة لنا من تفكيك سوريا، لأن العراق يمثل على الأجل القصير أخطر تهديد لإسرائيل).
صحيح أن الولايات المتحدة الأمريكية دولة علمانية، إلا أن ما يصرح به رؤساؤها ومفكروها يؤكد البعد العقدي الذي يعتقدونه، وينطلقون منه، ومن ذلك: ما صرح به الرئيس (جونسون) في أحد الاحتفالات، قائلاً: (إن بعضكم إن لم يكن كلكم، لديه روابط عميقة بأرض إسرائيل مثلي تماماً، لأن إيماني النصراني ينبع منكم، وقصص التوراة منقوشة في ذاكرتي تماماً، مثل قصص الكفاح البطولي ليهود العصر الحديث، من أجل الخلاص من القهر والاضطهاد).
أما الرئيس (كارتر) فيقول أمام الكنيست الإسرائيلي: (إن علاقة أمريكا بإسرائيل أكثر من علاقة خاصة، لأنها علاقة متأصلة في وجدان وأخلاق وديانة ومعتقدات الشعب الأمريكي نفسه، وباعتباري نصرانياً مؤمناً بالله، يؤمن أيضاً أن هناك أمراً إلهياً بإنشاء دولة إسرائيل)، ويقول الرئيس (ريجان) في إحدى مناسباته: (حينما أتطلع إلى نبؤاتكم القديمة في العهد القديم، وإلى العلامات المنبئة بمعركة هرمجدون، أجد نفسي متسائلاً عما إذا كنا نحن الجيل الذي سيرى ذلك لاحقاً).
أما الرئيس (جورج بوش) فأثر العقيدة الإنجيلية واضحة لديه، وهو ما عبر عنه بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، حين وصف العراق وإيران وكوريا الشمالية بمحور الشر، فاليمين الإنجيلي الحاكم في أمريكا يدين بمنظومية عقائدية، تقسم العالم دينيا إلى محورين: محور للشر يسكن الشرق، ومحور للخير يسكن الغرب.
وبعد.. هل وعى المسلمون أبعاد مسلسل السيطرة على أرض العراق؟. وهل أدركوا خطورة المرحلة العصيبة التي تعيشها أمتنا؟ إننا في الوقت الذي ندين فيه إرهاب القاعدة، الذي شوه صورة الإسلام ورسالته السمحة، ندين أيضاً التطرف الأصولي للساسة الأمريكيين، فكل تطرف ينشأ عنه تطرف بنفس القوة لكنه عكس الاتجاه.
كما أن التجاوب الحقيقي مع متطلبات المرحلة، وكشف الأهداف الأمريكية الخادعة، وفضح أبعاد هذا المخطط، والأخذ بالأسباب الشرعية في ظل تؤدة ورفق وحكمة ظاهرة، مطالب مهمة ولا شك، لأننا لا زلنا نملك كثيراً من مقومات القوة وعوامل التغيير، التي لم تستثمر بعد، فالعبرة بكمال النهايات لا بنقص البدايات.
drsasq@gmail.com