قال أبو الطيب المتنبي:

يقول أبو الطيب في بيتيه هذين: الركاب - الإبل - تخدي بنا وتسرع، ومشافرها (المشفر للبعير: كالشفة للإنسان) بيض (لأنها تمنع من المرعى لشدة السير) وفراسنها (فرسن البعير: بمنزلة الحافر للدابة) خضر لأنها تمشي - تطأ - في الرغل والينم (نبتان)، وهي معكومة مشدودة الأفواه، ونحن نضربها على المرعى نبغي منبت الكرم، وهذان البيتان من قصيدة قالها أبو الطيب يذكر فيها مسيره من مصر حاثاً إبله ليصل إلى العراق.

وقد تطرق المستشرق الإسباني إميليوغرسيه غومث بدراسة حول هذه القصية، وقد أعجب أشد الإعجاب بالبيت:

واعتبره رمزاً لشعر المتنبي، يقول وقد وضع العنوان التالي (المشافر البيض والخفاف الخضر) لكلامه: تضمنت القصيدة التي أنشدها المتنبي في الكوفة عام 963م، ووصف فيها السرعة التي ترك بها مصر هارباً بيتاً رائعاً من الشعر. يريد أن يقول: إنهم وقد أغذوا السير لم يتركوا الإبل ترعى، فجف اللغام (زبد يخرج من فم البعير أبيض) على أشداقها، وابيضت مشافرها، بينما اخضرت خفافها لكثرة ما وطئت من النبت، وهي تقطع الأودية والمروج، إن هذا البيت يمكن أن يكون رمزاً لشعر المتنبي نفسه، لقد غذ - أسرع - الشاعر السير، عارم الرغبة، سريع الخطر، فاقد البصر دائماً، فجاز كل مروج عالم الشعر، لم يقف عند عالم الدين، ولم يستطع الحب أن يمسك به، واستأنى قليلاً في دنيا الفخر الشعري ليمضي محلقاً وراء مجد أداته السيف، مجد سرعان ما تلاشى بعد أن أغرقه في أشد ألوان التشاؤم كآبة. وهكذا وصل شعره، بعد رحلة مريعة، مبيض المشافر، فخضر الخفاف، بعد أن استباحت قدماه مندفعاً ألذ أعشاب البلاغة والتفت بأحلى ما فيها.

نقول: يمكن أن ننظر إلى هذين البيتين من زاوية أعم وأشمل وأن شاعر العرب الأكبر عندما قال هذين البيتين كان يقصد بهما أمة العرب والإسلام في ماضيها وحاضرها ومستقبلها، فالمتنبي عاش في النصف الأول من القرن الرابع الهجري وكان هذا القرن والقرن الذي سبقه من أشد القرون في انحطاط العرب والمسلمين وخصوصاً في المشرق العربي والشمال الأفريقين، فقد تفرقت الأمة ولعبت الشعوبية والفرق الضالة أدوارها الخبيثة ضد العرب وضد تعاليم الإسلام الصحيحة والسامية، وهذا مما يثير الحزن والأسى في قلب من يعتز بعروبته وإسلامه، ولهذا فإننا نعتقد أن المتنبي عندما قال هذين البيتين كان يعود به فكره إلى القرنين الأول والثاني للعرب والإسلام، عندما كانت أفواه العرب لم تعكم ولم تبيض شفاههم، فقد اخضرت أفواههم وأرجلهم بالفتوحات العظيمة والخيرات الجزيلة، وفي نشر الإسلام وبناء الحضارة وكانوا في عزة وفخر وغلبة. والغريب في الأمر في القرن الخامس عشر الهجري أن العرب لا يزالون معكومي الأفواه، وهم يسيرون فوق خيرات أرضهم التي يمتصها الأجنبي ناهيك عن استباحة بعض بلدانهم، ولعب عدوهم بهم، ومع هذا فهناك في السنوات الأخيرة بصيص من الأمل، فنحن في المملكة العربية السعودية فلم يعد هناك عكم للأفواه للنقد المفيد للوطن، والبلد يسير في خطوات حثيثة نحو البناء والتطور العلمي والتقني واستخدام خيرات البلد فيما ينفع البلد.

* * *

المراجع:

إميليوغرسيه غومث، 1378هـ - 1978م، (مع شعراء الأندلس والمتنبي) سير ودراسات. تعريب: الطاهر أحمد مكي. دار المعارف - القاهرة.