نعيش في المملكة العربية السعودية ذكرى اليوم الوطني الذي يصادف الأول من الميزان. هذه الذكرى التاريخية المجيدة والمهمة والحدث الفريد، نستشرف ونستذكر من خلالها ذكرى توحيد المملكة العربية السعودية وإرساء قواعد كيان هذه الدولة على يد الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود - طيب الله ثراه - الذي سطر أروع الملاحم الوطنية البطولية في التاريخ الحديث، واستطاع أن يضع اللبنات الأساسية لهذا الوطن الغالي، وطن المجد والعز والفخار، ووحد أركانه وأسس بنيانه تحت راية التوحيد لا إله إلا الله، وعزيمة الإسلام التي لا تلين، وبنى دولة عصرية على أسس راسخة ومتينة من مبادئ الشريعة الإسلامية الغراء والقيم العربية الأصيلة، ومن ثم واصل المسيرة المباركة والظافرة ملوك آل سعود أبناؤه البررة من بعده على ذات المنهج الذي رسمه الملك المؤسس فحملوا الراية وأدوا الأمانة بكل إخلاص وتفانٍ.. وهمة.. في العمل نحو كل ما فيه العزة والسؤدد والتقدم والرقي والرخاء لخدمة الوطن والمواطن في كافة المجالات حتى وصلت المملكة في وقتنا الحاضر في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز - حفظه الله ورعاه - إلى نهضة تنموية وحضارية شاملة في كافة نواحي الحياة العمرانية والتعليم والصحة والتجارة والصناعة حتى واكبت الدول الأخرى المتقدمة وتسابق الزمن في التطور والتقدم لمواكبة العصر ومعايشة المتغيرات العالمية.
انطلاق البطل
ولد الملك عبدالعزيز في مدينة الرياض عام 1293هـ - 1876م, ونشأ تحت رعاية والده الإمام عبدالرحمن بن فيصل بن تركي بن عبدالله آل سعود، وتعلم القراءة والكتابة على يد الشيخ القاضي عبدالله الخرجي وهو من علماء الرياض, فحفظ بعضاً من سور القرآن الكريم ثم قرأه كله على يد الشيخ محمد بن مصيبيح, كما درس جانباً من أصول الفقه والتوحيد على يد الشيخ عبدالله بن عبداللطيف آل الشيخ.
وكان الملك عبدالعزيز في صباه مولعاً بالفروسية وركوب الخيل، وعرف بشجاعته وجرأته وإقدامه وخلقه القويم وإرادته الصلبة، وقد رافق والده في رحلته إلى البادية بعد الرحيل من الرياض، وتأثر - رحمه الله - بحياة التنقل خصوصاً فيما يتعلق بالجدية وصلابة العود وقوة التحمل.
وعندما حل الأمير عبدالرحمن بن فيصل بن تركي بالكويت كان عبدالعزيز الابن في الثانية عشرة من عمره, وقد بقي في الكويت مع والده وأسرته لمدة عشر سنوات, درس خلالها القرآن الكريم وخبر السياسة في مجلس الشيخ مبارك الصباح واشترك معه في بعض معاركه مما زاد من خبرته في إدارة المعارك وأهّله لإعداد العدة لاستعادة وطن الآباء والأجداد.
إن قصة حياة وجهاد وانتصارات الملك عبدالعزيز بن عبد الرحمن آل سعود - طيب الله ثراه - تعتبر ملحمة تاريخية وقصة كفاح فريدة وأسطورية ذات فصول متعددة كتب أحداثها بكل اللغات ومعجزة نادرة جرت أحداثها الأولى في منطقة نجد قلب الجزيرة النابض، ومن ثم تمددت إلى أطرافها الشرقية عند ساحل الخليج العربي لتصل غرباً إلى ساحل البحر الأحمر تضم أرض الحجاز مهد النبوة ومهبط الوحي ومقر الحرمين الشريفين وانطلقت في بسط سلطانها جنوباً إلى مناطق عسير وتهامة الجبلية والسهلية.
توحيد الأرض وتوحيد القلوب
وانطلق الفتى اليافع عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود من الكويت على رأس حملة من أقاربه وأعوانه صوب الرياض وكان عمره 26 عاماً, وكانت الجزيرة العربية في ذلك الوقت تعج بالفوضى والتناحر, وبزغ فجر يوم الخامس من شهر شوال عام 1319هـ الموافق 15 يناير 1902م إيذاناً ببداية عهد جديد, حيث استطاع البطل الشاب استعادة مدينة الرياض ليضع بذلك اللبنة الأولى لهذا الكيان الشامخ, وتسلم مقاليد الحكم والإمامة بعد أن تنازل له والده الإمام عبدالرحمن بن فيصل عن الحكم والإمامة في اجتماع حافل بالمسجد الكبير بالرياض بعد صلاة الجمعة بعد ذلك شرع الملك عبدالعزيز في توحيد مناطق نجد تدريجياً, فبدأ في الفترة 1320- 1321هـ بتوحيد المناطق الواقعة جنوب الرياض بعد انتصاره في بلدة الدلم القريبة من الخرج, فدانت له كل بلدان الجنوب, الخرج والحريق والحوطة والأفلاج وبلدان وادي الدواسر.
ثم توجه إلى منطقة الوشم ودخل بلدة شقراء, ثم واصل زحفه صوب بلدة ثادق فدخلها أيضاً, ثم انطلق إلى منطقة سدير ودخل بلدة المجمعة, وبهذا الجهد العسكري تمكن الملك عبدالعزيز من توحيد مناطق الوشم وسدير وضمها إلى بوتقة الدولة السعودية الحديثة.
وتمكن الملك عبدالعزيز في الفترة 1321- 1324هـ من توحيد منطقة القصيم وضمها إلى الدولة السعودية بعد أن خاض مجموعة من المعارك منها معركة الفيضة ومعركة البكيرية ومعركة الشنانة وانتصاره في معركة روضة مهنا في 18 صفر 1324هر الموافق 14 إبريل 1906م وهي إحدى المعارك الكبرى الحاسمة.
وفي 5 جمادى الأولى 1321هـ الموافق 13 إبريل 1913م ضم الملك عبدالعزيز منطقة الأحساء بكاملها, وأفاد كثيراً ضم منطقة الأحساء إلى دولته لأنه قد وسّع بذلك حدود دولته لتشمل جزءاً مهماً من الجزيرة العربية يطل على ساحل الخليج العربي وله أهميته السياسية والاقتصادية والتجارية, وأصبح للدولة منفذ بحري أخرجها من عزلتها وانغلاقها, وأصبح الملك عبدالعزيز وثيق الصلة بالدول الكبرى.
وفي عام 1334هـ - 1915م قام الملك عبدالعزيز بأول زيارة خارج بلاده وكانت إلى الكويت, قدّم أثناءها تعازيه لشيخ الكويت جابر بن مبارك الصباح في وفاة أبيه.
وفي عام 1920م تمكن الملك عبدالعزيز من ضم منطقة عسير إلى أجزاء دولته, كما عقد في نفس العام مؤتمراً في الرياض حضره الأمراء والعلماء ورجال الدولة وشيوخ العشائر تقرر فيه بالإجماع أن يكون لقب الملك عبدالعزيز الرسمي هو (سلطان نجد وملحقاتها).
وفي 29 صفر 1340هـ الموافق 2 نوفمبر 1921م ضم الملك عبدالعزيز منطقة جبل شمر ومدينة حائل, كما وحّد منطقة الحجاز مع باقي مناطق الدولة السعودية الحديثة, ودخل مكة المكرمة سلماً وهو محرم وذلك في 17 ربيع الأول 1343هـ.
وفي عام 1345هـ - 1926م لقب الملك عبدالعزيز بلقب (ملك الحجاز ونجد وملحقاتها).
تحت راية لا إله إلا الله
وفي 17 جمادى الأولى 1351هـ صدر مرسوم ملكي بتوحيد كل أجزاء الدولة السعودية الحديثة في اسم واحد هو (المملكة العربية السعودية) وأن يصبح لقب الملك عبدالعزيز (ملك المملكة العربية السعودية), واختار جلالته في الأمر الملكي يوم الخميس 21 جمادى الأولى 1351هـ الموافق لليوم الأول من الميزان يوماً لإعلان توحيد المملكة العربية السعودية وهو اليوم الوطني للمملكة.
واختارت الدولة السعودية في عهد الملك عبدالعزيز شعار الدولة الحالي (سيفان متقاطعان بينهما نخلة) أما العلم فأصبح لونه أخضر مستطيل الشكل تتوسطه شهادة التوحيد (لا إله إلا الله محمد رسول الله) باللون الأبيض وتحتها سيف باللون الأبيض.
ونظم الملك عبدالعزيز دولته الحديثة على أساس من التحديث والتطوير المعاصر, فوزع المسؤوليات في الدولة وأسس حكومة منطقة الحجاز بعد ضمها وأنشأ منصب النائب العام في الحجاز وأسند مهامه إلى ابنه الأمير فيصل وكان ذلك عام 1344هـ - 1926م, كما أسند إليه رئاسة مجلس الشورى, وفي 19 شعبان 1350هـ الموافق 30 ديسمبر 1931م صدر نظام خاص بتأليف مجلس الوكلاء, وأنشأ الملك عبدالعزيز عدداً من الوزارات, وأقامت الدولة علاقات دبلوماسية وفق التمثيل السياسي الدولي المتعارف عليه رسمياً, وعينت السفراء والقناصل والمفوضين والوزراء لهذه الغاية, كما اهتم الملك عبدالعزيز كثيراً بدعم الحركات التحريرية العربية والإسلامية, ودعم القضية الفلسطينية, ولما تأسست جامعة الدول العربية في القاهرة عام 1365هـ - 1945م كانت المملكة العربية السعودية من الدول المؤسسة.
ومن منجزات الملك عبدالعزيز تنفيذ أول مشروع من نوعه لتوطين البدو, فأسكنهم في هجر زراعية مستقرة وشكل منهم جيشاً متطوعاً يكون تحت يده عند الحاجة, كما عمل على تحسين وضع المملكة الاجتماعي والاقتصادي فوجه عناية واهتماماً بالتعليم بفتح المدارس والمعاهد وأرسل البعثات إلى الخارج وشجع طباعة الكتب خصوصاً الكتب العربية والإسلامية واهتم بالدعوة الإسلامية ومحاربة البدع والخرافات, وأنشأ هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وزودها بالإمكانات والصلاحيات, وأمر بتوسعة الحرم النبوي الشريف, وقد شرع في ذلك عام 1370هـ - 1951م, ووفر الماء والخدمات الطبية والوقائية لحجاج بيت الله الحرام.
بشائر النهضة الحضارية
وفي عام 1357هـ - 1938م استخرج النفط بكميات تجارية في المنطقة الشرقية مما ساعد على ازدياد الثروة النقدية التي أسهمت في تطوير المملكة وتقدمها وازدهارها, وأنشئت مؤسسة النقد العربي السعودي بعد أن بدأت العملة السعودية تأخذ مكانها الطبيعي بين عملات الدول الأخرى, واشترت الدولة الآلات الزراعية ووزعتها على الفلاحين للنهوض بالزراعة, وأنشئت الطرق البرية المعبدة, ومد خط حديدي ليربط الرياض بالدمام, وربطت البلاد بشبكة من المواصلات السلكية واللاسلكية, ووضعت نواة الطيران المدني بإنشاء الخطوط الجوية العربية السعودية عام 1945م, ومد خط أنابيب النفط من الخليج إلى موانئ البحر الأبيض المتوسط, وافتتحت الإذاعة السعودية عام 1368هـ - 1949م, واهتم المؤسس - رحمه الله - بمحاربة المرض وتوفير الخدمات الصحية, فأنشئت المستشفيات والمراكز الصحية في مختلف مدن المملكة, ووضع نظام للجوازات السعودية وغيرها من المرافق العامة ذات الصلة بالمجتمع.
وهكذا أرسى القائد المؤسس قواعد دولته الفتية على أرض الجزيرة العربية مستمداً دستورها ومنهاجها من كتاب الله الكريم وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم, فبدل خوفها أمناً, وجهلها علماً, وفقرها رخاءً وازدهاراً.
ولم يكتف الملك عبدالعزيز ببناء هذه الوحدة السياسية والحفاظ عليها فقط بل سعى إلى تطويرها وإصلاحها في المجالات كافة, حتى استطاع بفضل الله عز وجل أن يضع الأساس لنظام إسلامي شديد الثبات والاستقرار مع التركيز على المسؤوليات وتحديد الصلاحيات, فتكونت الوزارات وظهرت المؤسسات وقامت الإدارات لمواجهة التطور, وأدخلت المخترعات الحديثة لأول مرة في شبه الجزيرة العربية فحلت تدريجياً محل الوسائل التقليدية.
وأقام - طيب الله ثراه - القضاء على أساس من تحكيم الشريعة الإسلامية في كل الأمور, فأنشأ المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها, وأصدر الأنظمة التي تدعم هذه المحاكم وتبين وظائفها وتحدد اختصاصاتها وسلطاتها وتنظم سير العمل بها, وفي ظل هذا القضاء الإسلامي الأصيل يوجد نظام الحدود ويطبق القصاص وتصان الحقوق وتحفظ المصالح ويوطن الأمن.
كما حقق الملك عبدالعزيز إنجازات كبيرة في مجال إقرار الأمن والمحافظة على النظام في الدولة لتوفير الراحة والاطمئنان للمواطنين والوافدين فضرب بيدٍ من حديد على كل من تسول له نفسه العبث بالأمن أو الإخلال بالنظام حتى أصبحت هذه البلاد مضرب الأمثال في جميع الأوساط الدولية على استتباب الأمن والاستقرار.
وتعد ملحمة التوحيد بحد ذاتها معجزة لم يعرف العالم العربي مثلها منذ زوال الدولة الإسلامية وتقسيم المنطقة من قِبل قوى الاستعمار, ومن ينظر إلى التقسيم والتمزق اللذين أصابا الخريطة العربية فجعلاها دويلات صغيرة يدرك معنى الاعتزاز الذي يبديه السعوديون تجاه ذلك الإنجاز التاريخي, ومنذ أن وطّد الملك عبدالعزيز دعائم الدولة وتعاقب على إدارة شؤون البلاد أبناؤه, لم يحدث ما يعكر صفو البلاد التي لم تمر بمحن مرت بها دول المنطقة الأخرى.
رعاية ضيوف الرحمن
ووفر الملك عبدالعزيز أفضل الخدمات لضيوف الرحمن والأماكن المقدسة إذ بادر بوضع نظام للحجاج وأشرف بنفسه على تنفيذه ليضمن لهم أكبر قدر من الراحة والأمن والطمأنينة وحفظ أرواحهم وأموالهم, كما اتخذ من التدابير ما يمنع استغلالهم وفرض تعريفات بأجور عادية لنقلهم بين الأماكن المقدسة, وعمل على توفير مياه الشرب والأغذية وكل مستلزمات الحياة ووسائل الراحة لهم, واهتم بنشر العلم والثقافة على أسس إسلامية راسخة, وحارب الجهل بين الحاضرة والبادية فساند حركات الوعظ والإرشاد والتعليم في المساجد والكتاتيب وغيرها, ودعم المدارس الأهلية ووضع قواعد التعليم الحكومي المنظم عندما أسس مديرية المعارف لتتولى الإشراف على التربية والتعليم ففتح المدارس وأنشأ المعاهد ووضع المناهج والأنظمة التعليمية التي تسير عليها, وأرسل البعثات إلى الخارج وقام بتطوير نهضة علمية عملاقة شملت جميع مناطق المملكة.
إن الإنجازات العظيمة للملك عبدالعزيز آل سعود - طيب الله ثراه - تسجل صفحات مشرقة في التاريخ من البطولات والعطاء المخلص المتميز من أجل بناء الوطن واستقراره أمناً وأماناً, ونهضة المواطن وإرساء قواعد انطلاقة المستقبل, كما تسجل رؤيته الثاقبة في تحقيق الإنجازات الدستورية لنظم الحكم وإدارة شؤون البلاد وفق المنهج الإسلامي القويم.
هذه كانت الأسس والركائز التي قام عليها الكيان الشامخ لتبدأ مرحلة الانتماء الفكري والاجتماعي للمواطن بإعداده وتأهيله علمياً وتعليمياً وذلك بفتح مجال التعليم المجاني لأبناء الوطن والتشجيع عليه وفي الوقت نفسه توفير الخدمات التي تهيئ العيش الكريم والراحة للمواطنين فقد أوجد الملك عبدالعزيز نظام القرى المستقرة ورعى قيام المدن الحديثة ووفر لها أسباب الاستقرار والبنية الأساسية من طرق المواصلات ووسائل الاتصالات الحديثة والرعاية الصحية المجانية وتكثيف الجهود من أجل الدعوة ونشر تعاليم الدين الإسلامي الحنيف قولاً وعملاً ومنهجاً, كما أرسى - طيب الله ثراه - قواعد الاقتصاد ودعم روافده, فعمل على استغلال الثروات الطبيعية الدفينة في أرض المملكة ودعا لاستخراجها واستثمارها في كل ما يعود بالنفع والخير على الوطن والمواطن.
ظهور الدور السعودي المؤثر
وبينما كانت النهضة الداخلية تتواصل من أجل بناء الوطن وتنمية معيشة المواطن, كان الملك عبدالعزيز يحقق الإنجازات العملاقة للمملكة على المستوى العربي والإسلامي والدولي, حيث توافق البناء الداخلي للوطن مع دوره التاريخي, فقد برز الملك المؤسس كقائد بارز لدولة فتية لها مكانتها العظيمة في نفوس وقلوب المسلمين في شتى بقاع الأرض, ولها دورها الفاعل على الصعيد العربي لدعم ونصرة قضايا الأمة, وقد برز دور المملكة في ذلك من خلال المواقف التاريخية للملك عبدالعزيز تجاه القضية الفلسطينية ودعم الشعب الفلسطيني في كفاحه ضد الصهيونية وأطماعها ودعوته للقوى الكبرى للحفاظ على الحق العربي الفلسطيني, كما ساند الدول الإسلامية في قضاياها وأسهم في تأسيس الجامعة العربية ونادى بضرورة التضامن العربي والتعاون الإسلامي.
وعلى الصعيد الدولي, كان للملك عبدالعزيز دور فاعل في العديد من القضايا العالمية ومساندته لقضايا الحق والسلام, وتجسيداً لذلك حرص - رحمه الله - على أن تشارك المملكة في المنظمة الدولية كعضو مؤسس.
ولم تقتصر جهود الدولة في عهد الملك عبدالعزيز على البناء الداخلي بل سعت إلى توثيق العلاقات مع الدول الشقيقة والصديقة, فكانت سياسة المملكة الخارجية مبنية على وضوح الهدف والثبات على المبدأ ومناصرة الحق انطلاقاً من تعاليم الدين الإسلامي الحنيف الذي قامت عليه أركان هذه الدولة وهو القاعدة التي انطلقت منها نهضتها وأمنها ورخاؤها.
فقد حرص الملك عبدالعزيز على مد جسور التعاون والتقارب وتعزيز الروابط مع الأشقاء العرب وسعى إلى توحيد صفوفهم وجمع كلمتهم ولم شملهم وحل خلافاتهم بالتشاور فيما بينهم والاتفاق على الأهداف الأساسية التي تضمن لهم تحرير أراضيهم وصيانة حقوقهم ومكتسباتهم.
وها هي المملكة العربية السعودية اليوم قوة ينظر إليها نظرة احترام وتقدير من العالم أجمع باعتبارها تسعى إلى استتباب الأمن والسلم الدوليين وترعى المواثيق والقوانين والأعراف الدولية وتحترم حسن الجوار وتقيم علاقات مع كل الأطراف على أساس من الاحترام والثقة المتبادلة ولا تتدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى, كما أنها لا ترضى أن يتدخل أحد في شؤونها فهي تتخذ قراراتها انطلاقاً من قناعتها ومواقفها الثابتة بعيداً عن التأثيرات الخارجية.
وهذا يعود إلى السياسة الحكيمة التي أرسى قواعدها الملك عبدالعزيز, وليس معنى ذلك أنه وجد الطريق أمامه سهلاً ميسراً بل واجه العديد من العقبات والمشكلات, فكان لا بد من اللجوء إلى القوة فاستخدمها لإحقاق الحق والعدل حتى تمكن بفضل الله سبحانه وتعالى ثم بعزمه وحزمه من القضاء عليها وإخمادها في مهدها.
تفرد وبطولة
وهكذا سجل التاريخ العربي ميلاد دولة ذات سيادة وقوة ومهابة على أرض الجزيرة العربية, دولة مترامية الأطراف تأخذ بكل أسباب الرقي والتقدم وتجعل من كتاب الله الكريم وسنة رسوله محمد عليه أفضل الصلاة والسلام دستوراً ومنهجاً لها في الحياة.
لقد ظلت هذه الأرض عقوداً طويلة مسرحاً للفوضى والقلاقل والاضطرابات, فجاء الملك عبدالعزيز ليبدل خوفها أمناً وجهلها علماً وفقرها رخاءً وتخلفها تطوراً وازدهاراً, وأجمع مؤرخو العصر على أن نشوء المملكة العربية السعودية كان ظاهرة فريدة لا مثيل لها في التاريخ الحديث.
لقد كان بزوغ شمس اليوم الخامس من شوال من عام 1319هـ الموافق 15 يناير 1902م بداية انطلاقة عهد جديد في تاريخ الجزيرة العربية, فما إن تمكن الملك عبد العزيز من فتح الرياض واستعادة عاصمة ملك آبائه وأجداده حتى واصل ملاحم البطولة على مدى 32 عاماً تم له بعدها توحيد أجزاء المملكة وإعلان قيامها دولة موحدة, محققاً بذلك ما كان يطمح إليه أبناء هذه البلاد من وحدة ووئام وسلام, وقال في إحدى خطبه إلى الشعب إن ما كان يهدف إليه من جهاده هو إحقاق الحق والعدل وإقامة شرع الله في هذه البلاد التي تتشرف بوجود الحرمين الشريفين على أرضها وخدمة قاصديهما من الحجاج والمعتمرين والزوار, فضلاً عن كونها مهبط الوحي ومهد الرسالة الإسلامية ومهوى أفئدة المسلمين في كل مكان.
وعلى مدى ما يزيد على عقدين من الزمن كرس الملك عبدالعزيز جهوده في إرساء قواعد النهضة الحديثة للبلاد من خلال ترسيخ الأمن والاستقرار والتعمير وتوطين البادية وتأمين طرق الحج وتأسيس مجلس الشورى وهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وافتتاح المدارس وتحديث أساليب الحياة إلى جانب إقامة علاقات مميزة مع الدول العربية والإسلامية والصديقة والدفاع عن قضايا الحق والعدل, وأصبحت المملكة العربية السعودية خلال سنوات قلائل إحدى الدول المؤثرة في الساحة الدولية وأصبحت تحظى باحترام وتقدير المجتمع الدولي.
وعلى الرغم من انشغاله بملحمة التوحيد ولم الشتات إلا أن الملك عبدالعزيز لم يكن بعيداً عن التحديات الخارجية والصراعات الدولية حيث تتهافت قوى الاستعمار للسيطرة على دول المنطقة وبلدان العالم الإسلامي.. غير أنه استطاع بحكمته وبعد نظره أن يتعامل مع هذا الواقع بوعيه السياسي الذي يرتكز على التوازن في الرؤى والعقلانية المبصرة لكل الأبعاد, وليس أدل على ذلك من قول رئيس الوزراء البريطاني في ذلك الوقت ونستون تشرشل: ان عبدالعزيز يناورنا, وكم كنا نعتقد أننا تمكنا منه ويظهر بعد ذلك أنه هو الذي تمكن منا.
ولم يدخل الملك عبدالعزيز في صراع مع بريطانيا يُدرك أن نتيجته ستكون في غير صالحه, بل آثر التريث والتبصر في أوقات الشدة والحزم والإصرار عند الحاجة, وبالتالي فقد حرص على ألا يُترك ذريعة قد يستغلها الآخرون للتدخل في شؤون بلاده, وفي هذا الإطار يقول الخبير السياسي بيرسي كوكس إن الملك عبدالعزيز لم ينزلق في خطوة خاطئة, وكان قادراً على أن يميز بدقة المكان الذي يجد فيه مصالح بلده.
وحين التقى به غلوب باشا عام 1928م قال عنه إنه شخصية مذهلة, كما لو كان رئيس أعظم دولة في العالم, كما قال عنه الإنجليزي الدكتور ديم إنه الرجل الأكثر كرماً وروعةً في العالم سواء في حالات الغضب أو حالات الرضا, والمناورات السياسية مفهومة عنده تماماً ولا يباريه أحد في ذلك, وقال عنه الكاتب الإنجليزي (بلارد) إن ابن سعود سيد الجزيرة العربية لم يعش في عاصمة متحضرة وطباعه تسمح له بالتكيف مع كل الأوضاع, وهذا تأكيدٌ على واقعية نظرته للأمور, وهي سمة تنامت مع تزايد مسؤولياته على الصعيدين المحلي والخارجي حتى أصبحت تتلاءم مع كل ما هو قائم وما هو متوقع من أحداث.
وكان من بشائر الخير على الأمة الوليدة أن اكتُشِف البترول بكميات تجارية في الجزء الشرقي من المملكة عام 1938م مما ساعد في النهوض بالبلاد وتطوير مواردها الاقتصادية.
وفي الثاني من شهر ربيع الأول من عام 1373هـ الموافق للتاسع من نوفمبر 1953م انتقل الملك عبد العزيز إلى رحمة الله تعالى, وتعاقب على سدة الحكم من بعده أبناؤه البررة الملك سعود, ثم الملك فيصل, ثم الملك خالد ثم الملك فهد (رحمهم الله جميعاً) ثم الملك عبدالله بن عبدالعزيز - حفظه الله ورعاه - والذين واصلوا على نهج والدهم العظيم مسيرة البناء والتعمير مع التمسك بشريعة الله دستوراً ومنهجاً.
هكذا كانت حياة الملك المؤسس عبدالعزيز, مليئة بالجهاد والبطولات وتحقيق الإنجازات التاريخية في تأسيس كيان شامخ في بدايته ومسيرته وأهدافه الخيرة.