اليوم تحل ذكرى اليوم الوطني، الذي فيه نستعيد ملحمة الوحدة، والوطن الذي بناه لبنة لبنة المؤسس العظيم الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه ورجاله العظماء. وحدة هذه البلاد، والمنجز الذي أنجزه الموحدون، لم يكن في تحقيق وحدة البلاد جغرافياً فحسب، وإنما في قدرة المؤسس وفريقه الإداري فيما بعد على بناء الدولة الحديثة؛ هذه المرحلة هي - في تقديري - تضاهي قدرته وعبقريته - رحمه الله - يوم انطلق من الرياض لتوحيد البلاد.
ولعل التحديات التي واجهت الملك عبدالعزيز بعد أن أنجز توحيد البلاد كانت أصعب وأكثر تعقيداً وحساسية مما واجهه طوال مسيرته الوحدوية. فتجذير الوحدة، وتكريسها، وترسيخها، يحتاج إلى موارد اقتصادية، وعلاقات سياسية إقليمية، وأخرى دولية، فضلاً عن ترسيخ ثقافة (المواطنة) بين الأجزاء الموحدة من أرض الوطن. كان على الملك عبدالعزيز أن يعمل لنقل ثقافة البلاد، وأهل البلاد، من ثقافة الانتماء إلى (المنطقة)، أو الانتماء إلى (القبيلة)، أو الانتماء إلى (الطائفة)، إلى ثقافة (الوطن) الواحد الموحد، المتعدد المناطق، والقبائل، والتشعبات المذهبية؛ الذي يجب أن تكون وحدته كوطن نهائي، وأمنه واستقراره والتساوي بين مواطنيه، (غاية) تعلو على كل الاعتبارات.
كان هذا هو التحدي الحقيقي الذي واجه المؤسس وفريق عمله الإداري بُعيد الوحدة، ومن يقرأ في المادة التاريخية المتوافرة - والقليلة للأسف - يستطيع أن يلمح أن إدارته لفترة ما بعد التحرير، كانت لا تقل - إطلاقاً - أهمية عن إدارته وقدراته وعبقريته في قيادة حروب الوحدة.
عمل رحمه الله إبان فترة ما بعد الوحدة، وإعلان المملكة، على ثلاثة محاور:
المحور الأول البعد الاقتصادي، المحور الثاني البعد الأمني الداخلي وترسيخ الاستقرار، المحور الثالث العلاقات الدولية. إضافة إلى الأبعاد التعليمية والصحية والاجتماعية التي أتت في مرحلة لاحقة.
ولعل المحور الاقتصادي وتوفير مصدر تعتمد عليه الحكومة المركزية، كان الشغل الأول للملك عبدالعزيز؛ رغم بعض المعارضات (السلفية) التي شككت في مدى حل السماح للأجانب، أو (الكفار)، بالتنقيب عن النفط، إلا أن حزمه وعزمه حسم الأمر، واستطاع أن (يُحجم)، وبقوة، هذه المعارضات (الساذجة)؛ فتدفق النفط الذي شكل القاعدة الأساسية التي حققت للوحدة الوليدة أهم أسباب استمرارها.
المحور الأمني، ونجاحه المنقطع النظير فيه، كان بمثابة الدليل (المحسوس) الذي أقنع كل أبناء الأجزاء التي انضمت حديثاً إلى المملكة، بجدوى الوحدة، ولاسيما أن الانتهاكات الأمنية كانت هي السمة الغالبة على أوضاع الجزيرة العربية قبل الوحدة، وما إن دخلت هذه البلدان في منظومة الوحدة، (استتب الأمن)، وشعر الناس بالفرق بين أوضاعهم قبل الوحدة وأوضاعهم بعدها؛ الأمر الذي دعّم الوحدة، ودعّم شرعية الوطن الجديد في ذهنية الملك عبدالعزيز، كما يقول ويؤكد من عاصروه وعملوا بالقرب منه فقد كان الأمن، واستتبابه، أمر لا يقبل المساومة على الإطلاق، حتى وإن اضطر لاستخدام القوة المسلحة.
أما المحور الثالث، الذي كان يعنيه كثيراً أيضاً، فقد كان العلاقات الدولية. لذلك فقد بادر منذ وقت مبكر على إقامة علاقات دبلوماسية، وأحياناً تحالفية، مع القوى المؤثرة في ذلك الوقت؛ وبالتحديد بريطانيا في البداية، التي كانت تحيط مستعمراتها بالوطن من كل جانب تقريباً. وعندما رأى بثاقب بصيرته، وقدرته على استشراف المستقبل، أن الحصان القادم بقوة من خلف الخيل في مضمار السباق (أمريكا)، أقام على الفور علاقات معها، ثم ترسخت هذه العلاقات، وارتقت إلى مستوى (الحليف) الاقتصادي الاستراتيجي، بعد تدفق النفط، وانتقال الأمريكيين من الشرنقة الداخلية إلى رحاب العالم.
هذه (المحاور) التي تحدثت عنها سابقاً، أجد أنها ما زالت تحتاج إلى الكثير من الجهد والدراسة والبحث.
وأنتهز هذه المناسبة الوطنية لأرفع إلى مقام خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله - حفظه الله - أملنا بأن يكلف من يراه من المختصين للعمل على جمع وتنقيح وترتيب وفهرسة (وثائق التأسيس) كعمل موسوعي ضخم، يلبي حاجة الباحثين والدارسين لمادة علمية موثقة. فهذه الوثائق ما تزال متفرقة بين جهات حكومية متعددة، وإصدارها في عمل موسوعي ضخم، عمل في غاية الأهمية للحفاظ على تاريخنا؛ وغني عن القول أن هذه الوثائق هي لب تاريخ تأسيس هذه البلاد.