Al Jazirah NewsPaper Saturday  13/09/2008 G Issue 13134
السبت 13 رمضان 1429   العدد  13134
خرافة (أورابيا)
محمد عبد الباري

هناك خط روائي قوي تلوكه الألسن اليوم ويدور حول عُرضة الشباب المسلم في أوروبا للتحول إلى الإرهاب، وكيف أن الإسلام يقود إلى التطرف، وكيف أن المسلمين بسبب عقيدتهم يختارون العيش في أحياء الأقليات المنعزلة فيخلقون بذلك مستنقعات يتولد فيها الإرهاب، وتتلخص الهيئة الأشد تطرفاً لهذه الرواية في فكرة (أورابيا)، وهو المصطلح الاستفزازي المهيج الذي يصف ظاهرة مفترضة مفادها أن حشود المسلمين تعمل الآن على تلويث الحمض النووي الأوروبي.

وأشد ما تعكسه هذه الرواية وضوحاً هو الخوف من الإرهاب الداخلي المنشأ، والباعث القوي إلى التعامل مع المسلمين باعتبارهم عدواً أجنبياً. وينطبق نفس القول على الفكرة التي تدور حول خطورة استيعاب الاختلافات الدينية. وهنا ينشأ تقسيم زائف حيث يصبح على المسلمين أن يختاروا بين الهوية الغربية والأوروبية أو الهوية الإسلامية المنعزلة طبقاً لمروجي هذه الرواية.

بيد أن العلاقة بين عقيدة المسلمين الأوروبيين وتعيين هوية الشعوب الأوروبية نادراً ما تتفق مع الأفكار الجاهزة المقولبة كفكرة (أورابيا). كانت مؤسسة جالوب قد أجرت دراسة عالمية واسعة النطاق، ثم تبلورت هذه الدراسة في كتاب من تأليف جون ل. اسبوسيتو وداليا مجاهد تحت عنوان (من يتحدث باسم الإسلام: كيف يفكر مليار مسلم حقاً). ولقد تضمنت الدراسة تحليلاً تفصيلياً محنكاً لمواقف المسلمين الأوروبيين، وتقترح نتائج الدراسة أن الهوية الدينية والانتماء الوطني لا يتنافسان، بل يكمل كل منهما الآخر.

إن المسلمين الذين يعيشون في باريس ولندن وبرلين أكثر تديناً من عامة الناس، إلا أنهم لا يقلون عن أي شخص آخر شعوراً بالانتماء إلى أوطانهم ومؤسساتها الديمقراطية، ويرفضون العنف مثلهم كمثل أي شخص آخر.

إن الرواية السائدة كثيراً ما تصور المساجد والجمعيات الإسلامية باعتبارها أماكن لتفريخ التطرف إلا أنني أؤكد أن بعض الشباب يميلون على نحو متزايد إلى الابتعاد عن هذه المؤسسات المسالمة، وربما يكون هذا راجعاً إلى الصعوبة التي تواجهها المساجد والجمعيات الإسلامية في التنافس مع العزاء الذي توفره شبكة الإنترنت حيث تستطيع الأصوات المختلفة مناقشة القضايا السياسية، والتغذي على الظلم في مختلف أنحاء العالم، وإطلاق صيحات الحرب التي قد تكون قاتلة في النهاية.

إن الإنترنت هو المكان الذي يستسلم فيه الشباب المسلمون للوصف الجذاب الزائف للإسلام الذي يقدمه لهم مهندسو الهجمات الإرهابية البشعة التي شهدها عصرنا. ونحن ندرك أيضاً أن التأثير المخرب الذي يخلفه الإنترنت على حفنة من الشباب ليس محصوراً في المجتمعات الإسلامية، كما أثبتت لنا الأحداث المأساوية التي وقعت في بريد جيند بالمملكة المتحدة حيث انتحر سبعة عشر شاباً أثناء اتصالهم عبر الإنترنت.

إن الثقافة الفرعية الأشد أهمية بالنسبة لبعض الشباب المسلمين هي في الواقع ثقافة افتراضية، سواء في أوروبا أو بلدان العالم الإسلامي، وتدور هذه الثقافة حول عالم يكتنفه الظلم الحقيقي، ولا يصح التعامل معه إلا بالعنف الذي من المفترض أن يؤدي في النهاية إلى انتصار العالم الإسلامي الموحد. وتغض هذه الثقافة الطرف عن مخالفة العنف للعقيدة والشرع؛ ما دامت الغاية تبرر الوسيلة، وما دامت البدائل غير متاحة.

يتمتع مثل هذا الحديث بقدر كبير من الجاذبية لأنه يغذي الشعور بالغربة بين العديد من الشباب المسلمين، وقد ينظر بعضهم إلى الحرب المرفوضة شعبياً الظالمة في العراق باعتبارها دليلاً على عبث العمل السياسي الشرعي، وقد يشعر غيرهم بالاختناق بفعل الحوارات السامة الدائرة التي تتعامل مع المسلمين الأوروبيين باعتبارهم أجانب وغرباء ومحل اشتباه. هذا فضلاً عن القوانين التي استنت خصيصاً لتمييز و(اضطهاد) المسلمين، والتصريحات التي تؤكد إصابة إعلامنا برهاب الإسلام، وتدعم الفكرة السخيفة التي تزعم أننا نشهد الآن (حرباً ضد الإسلام) حقاً.

لقد أصبحت الحاجة ملحة في المجتمعات الإسلامية في كل مكان إلى مجابهة هذه الرواية وتفنيدها بالتأكيد على رفض الإسلام العقيدي للعنف، ويتعين علينا أن نضاعف من جهودنا للوصول إلى المجتمعات المحلية وإطلاعها على حقيقة عقيدتنا، ولابد هنا أن نعرب عن احترامنا وتقديرنا لمثابرة المسلمين الهولنديين الذين يقاومون الاستفزازات من جانب رجل السياسة اليميني غريت وايلدرز الذي عقد العزم على إصدار فيلم لن يخدم إلا كأداة لتأجيج مشاعر التحيز بين عامة الناس ضد الإسلام. ولكن المسلمين في هولندا يردون على ذلك بفتح مساجدهم والتواصل مع جيرانهم.

إن المسؤولية الجماعية تلزمنا بالتعامل مع مثل هذه المشاكل ليس باعتبارها قضايا إسلامية، بل باعتبارها من المشاكل التي لابد وأن يؤدي حلها إلى تعزيز القيم والمبادئ التي يقوم عليها المجتمع الأوروبي، ولن يكون نجاحنا في مخاطبة مشاعر الظلم والحصار والتغريب بين المسلمين الشباب بمثابة انتصار على المتطرفين فحسب، بل إنه يشكل انتصاراً للقيم الليبرالية الأوروبية التي تؤكد أن كل فرد وكل جماعة من الأقليات لهم حقوق متساوية مع الآخرين.

بل يتعين علينا ألا ننظر إلى الإرهاب الناشئ في الداخل، أو تواجد المسلمين، باعتباره أمراً جديداً على أوروبا، فقد كان تفاعل الإسلام مع المجتمع الأوروبي سبباً في ازدهار المعرفة، كما استقر المقام بأعداد ضخمة من المسلمين في البلقان وشرق ووسط أوروبا لمئات السنين، ولقد ساعد هؤلاء المسلمون في إعادة بناء الاقتصاد الأوروبي الذي مزقته الحرب بعد أن وصلوا إلى أوروبا في خمسينيات القرن العشرين كمهاجرين ثم جعلوا منها بيتاً لهم، وفي كافة مناحي الحياة تقريباً كان المسلمون يشكلون جزءاً متمماً للنسيج الأوروبي.

من حق كل الأوروبيين بما فيهم المسلمون أن ينزعجوا بشدة إزاء قضية الإرهاب الناشئ في الداخل. إذ إن حقنا في الأمن والحياة أمر أساسي جوهري، وكذلك حقنا في الحياة في مكان خال من التحيز والشكوك، ولقد أبرزت التفجيرات التي شهدتها مدينتا لندن في السابع من يونيو-حزيران 2005 ذلك بكل وضوح. إذ إن الضحايا كانوا من المنتمين إلى كل الديانات والأعراق بما في ذلك المسلمون، وكذلك كان الأبطال الذين ساعدوا لندن في الوقوف على قدميها من جديد وفي وقت قياسي، ولقد كانت الرسالة الجماعية التي أطلقها أهل لندن في أعقاب السابع من يونيو-حزيران واضحة وحاسمة، ويتعين على أوروبا أيضاً أن تتبنى هذه الرسالة: (لن نسمح لهذه الأعمال الوحشية ببث الفُرقة بيننا).

الأمين العام للمجلس الإسلامي في بريطانيا.
حقوق النشر: بروجيكت سنديكيت - عالم أوروبا، 2008
خاص لـ«الجزيرة»



 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد