Al Jazirah NewsPaper Saturday  13/09/2008 G Issue 13134
السبت 13 رمضان 1429   العدد  13134

أبشر (أبا هاني)!
فقد عشت زاهداً! ومت رائداً! وتأتي الله - بإذنه - بقلب سليم!!

 

لا أعرف هذا الرجل عليه رحمات الله، ولم أتشرف بلقائه والاجتماع به، والتحدث إليه، ولم أسعد بالاستماع إلى كلماته وتوجيهاته..

ومع كل هذا فمنذ أن وطئت قدماي ثرى هذا الوطن العزيز منذ أكثر من خمسة وأربعين عاماً، شعرت عندما صافح اسمه الكريم مسامعي لأول مرة من خلال الصحف أو الإذاعة أو التلفزيون، ولامس شغاف قلبي، أن بيني وبين (محمود طيبة) عليه رحمات الله وشيجة صلة ورابطة معرفة، وآصرة من أواصر المودة والقربى!

***

قلت: ربما كان ذلك بسبب كلمة (طيبة) هذه الكلمة التي لها في زمن طفولتي خاصة وقعها الطيب، وأثرها الكبير فقد كان يسكن جدي لأمي عليه رحمات الله في حي ركن الدين (في الأكراد) في دمشق، وكان جدي لأمي هذا يسكن هو وأسرته وأولاده (أخوالي) الذين أحبه وأحبهم كثيراً في (زقاق) في ذلك الحي القديم يقال له زقاق (طيبة) وقد سمي بهذا الاسم لأن أسرة كريمة كانت تسكن في صدره - صدر الزقاق - يقال لها - بيت طيبة - أي - أسرة طيبة - وكان قسم كبير من أبنائها رفاقاً بل أصدقاء أعزاء لأخوالي الذين كنت أسعد بزيارتهم بين الفينة والأخرى وأسعد كذلك في كثير من الأحيان بلقاء أصدقائهم الحميمين من (آل طيبة) الذين كانوا - وقد مات أكثرهم يرحمهم الله - يتنافسون في تزويدي في تلك الأيام بالألعاب والهدايا والأعطيات..

***

ربما.. وربما كان ذلك بسبب ارتباط كلمة (طيبة) بطيبة الطيبة، المدينة التي سعدت سعادة الأبد حينما اختارها الله سبحانه وتعالى، لاستقبال نبيه الخاتم عليه الصلاة والسلام، واستقبال دعوته، ونصرة دينه، الذي أتم به نعمته، بحداء الرجال وزغاريد النساء، وغناء الولائد، وأهازيج الأطفال، وهم يرددون ويرجِّعون نشيداً واحداً جميلاً، ولحناً ملائكياً جليلاً، ومزماراً داوودياً أصيلاً..

طلع البدر علينا

من ثنيات الوداع

وجب الشكر علينا

ما دعا لله داع

أيها المبعوث فينا

جئت بالأمر المطاع

جئت شرفت المدينة

مرحباً يا خير داع

المدينة! التي نوَّرها الله بنوره ونور نبيه عليه الصلاة والسلام فصارت (المدينة المنورة)..

والمدينة التي طيبها الله، في مائها، وفي هوائها، وفي ثمارها وغلالها، وفي أهلها وزائريها، وفي ربوعها وروابيها فصارت (طيبة الطيبة).

***

إن لذكريات الطفولة، وصورها الجميلة آثارها التي لا تنسى في ذاكرة الإنسان، هذا مما لا شك فيه..

وإن الأشخاص والرموز والأماكن التي تشكل الخلفية التاريخية لمعتقدات الإنسان الأساسية ومقدساته المحورية كذلك آثارها التي لا تنسى، ونتائجها في الحاضر والمستقبل!

لكن من الأشياء الملفتة للنظر، التي تشد الانتباه، في مسيرة حياة معالي المهندس (محمود طيبة) عليه رحمات الله، والشهادات التي أدلى بها أصحابها بحقه.. من هذه الأشياء والشهادات الكثيرة ثلاثة أمور توقفت عندها، وتأملتها كثيراً، وأمعنت النظر فيها ملياً..

***

أول هذه الأمور:

أن القيادة الحكيمة في بلدنا هذا، أبت على سن (التقاعد) أن تسيطر على المهندس (محمود طيبة) عليه رحمات الله..

أبت أن تكون هذه السن حائلاً يحول دون الاستفادة من طاقاته وخبراته ومواهبه ومهاراته، وشخصيته المعطاء، وقدراته القيادية، فأطلقت له العنان يعطي بعد تلك السن كما أعطى قبلها وخاصة في الميادين التي لمع فيها وأبدع، وهي ميادين الصناعة والكهرباء وميادين الأبحاث والتنمية، وعضوية مجالس إدارة عدد من المؤسسات الاقتصادية الحيوية.. وكان في كل واحدة منها مبرزاً مميزاً، فقد تحصل - رحمه الله - في مسيرة حياته، على عدد من الأوسمة الرفيعة الفذة من وطننا العزيز، ومن وطننا الإسلامي ومن بلاد بني الإنسان الأخرى.

- منها وسام (الملك عبد العزيز) من الدرجة الممتازة.

- ومنها وسام (فارس أعظم) من جمهورية باكستان الإسلامية.

- ومنها وسام (النجم الساطع) من حكومة الصين.

***

لقد أبت القيادة الحكيمة في وطننا هذا إلا أن تفيد من حكمة هذا الرجل - محمود طيبة - عليه رحمات الله حتى آخر يوم من حياته..

أبت إلا أن تفيد من حكمته وشخصيته وقدراته العلمية والإدارية والمسلكية والقيادية فكلفته في سني حياته الأخيرة بأن يكون نائباً لرئيس (مجلس الشورى) هذا المجلس الذي يضم في جنباته صفوة الصفوة، من رجالات البلاد ومفكريها وقياداتها، وطاقاتها المختلفة، وإمكاناتها المتعددة.

وعندما انتقل (محمود طيبة) عليه رحمات الله إلى رحاب ربه الكريم، كان قد تخطى الثمانين من العمر، فكان أشبه ما يكون بالفارس الذي أتعب فرسه من طول التسيار، ومواصلة السرى بالليل والنهار، وكان أشبه ما يكون بالصورة التي رسمتها ريشة الشاعر العربي العظيم (أبي تمام) وهو يصف موت القائد العظيم (محمد بن حميد الطوسي) في قصيدته الرائية الخالدة فيقول:

وما مات حتى مات مضرب سيفه

من الطعن واعتلَّت عليه القنا السُّمر

***

ثاني هذه الأمور:

شهادة معالي الدكتور (غازي القصيبي) فيه..

الدكتور (غازي القصيبي) أستاذ الجامعة الكبير، والوزير المخضرم، والسفير المميز، والشاعر العبقري الفذ.. والذي يقول: إنه (سعد بالعمل معه سنين طويلة).. وكنتيجة لهذا العمل المشترك، ومعرفته له في هذه السنين الطويلة سماه (بالرجل المضيء)!

وشرح لنا الدكتور (القصيبي) حفظه الله ما الذي يعنيه بالرجل المضيء فقال: إنه يعني (أن داخله - داخل محمود طيبة عليه رحمات الله - كان يشرق بالإيمان والتقوى وكان خارجه يعكس النور الداخلي). ثم يقول: (هذا الرجل المضيء أضاء من قرى المملكة ومدنها بتوفيق من الله ثم بدعم من الدولة السنية ما لم يسبقه إليه، أو لم يلحقه بعد رجل آخر!).

ويقول الدكتور (القصيبي) أيضاً عن الراحل (محمود طيبة رحمه الله) يقول: (كان الرجل المناسب وفي الموقع المناسب يعمل ولا يتذمر.. يصل الليل بالنهار ولا يتململ.. كان دائم الأمل حتى عند هبوط الظلام!).

ويقول هذا (الشاهد) الحكيم الخبير الأمين في شهادته: كان (محمود طيبة) عليه رحمات الله (دائم الابتسام مشرق الوجه، مع الرئيس والمرؤوس) إذ إن (التعامل مع الرئيس فن لا يتقنه كل أحد) وهو (الانضباط في غير استخذاء، والطاعة دون رياء، وإبداء الرأي في كل الأحوال..). (والتعامل مع المرؤوس فن آخر جميل، فالكثيرون - أكثر مما يتوقع أحد - يغارون من مرؤوسيهم المباشرين.. يغارون من إنجازاتهم.. ويفزعون من بروز أسمائهم.. وأشهد أمام الله - بعد رحيله - أنه لم يكن يغار من مرؤوس.. ومكنه هذا من الاستفادة إلى الحدود القصوى من طاقة كل مرؤوس.. الحدود القصوى القصوى!!).

***

تلك كانت شهادة بل شهادات الأستاذ الجامعي القدير، والوزير المخضرم، والمشاعر العبقري الملهم، معالي الدكتور (غازي القصيبي) في فقيدنا العزيز الكريم، وقد عملا معاً سنوات عديدة، واجتمعا في لجان واحدة، واشتركا في إنجاز مشروعات محددة.. وهذه الشهادات تعكس الصور الحقيقية عن كثير من تصرفات المهندس (محمود طيبة) عليه رحمات الله وتعامله مع الناس خارج بيته وفي ميادين أعماله الكثيرة، وعطاءاته العديدة، وأنشطته المختلفة..

***

أما الأمر الثلاث: فيتعلق في حياته في بيته في المكان الذي يأوي إليه، حيث يأكل ويشرب، وينام ويتهجد، ويتعامل مع أهله وأولاده ومن يخدمونهم، ويتحاور معهم فيتفق معهم وقد يختلف.. مع أقاربه وأرحامه وضيوفه.. ولا يُنَبِّئُك مثل خبير في هذا الموضوع؛ تقول ابنته الكريمة السيدة (سمر): (لقد كان رحمه الله موسوعة في الخلق الفاضل الرفيع جمع في جنباته مكارم الأخلاق وأنبل الصفات).

وتدلل على ذلك بقولها: (كان رحمه الله راضياً عن الله تمام الرضى، فقد كان حقاً مثال الرجل المستسلم لقضاء الله، الشاكر لله دوماً وعلى كل حال) ثم تقول: (كان جوابه الذي لا يتغير كلما سأله أحد عن حاله: الحمد لله على خير ما تحب).. إن هذه العبارة الجميلة التي كان يجيب بها سائله حينما كان يسأله عن حاله تذكرنا بقول الله سبحانه وتعالى وهو يصف المؤمنين في جناته التي تجري من تحتها الأنهار وقد حُلُّوا أساور الذهب واللؤلؤ، ولبسوا فيها ثياب الحرير، (وهدوا إلى الطيب من القول، وهدوا إلى صراط الحميد) - الحج الآية 24.

وفي مجال حرصه - رحمه الله - على الاقتصاد في صرف الكهرباء والماء تقول السيدة (سمر): (كان دائماً يردد إن الكهرباء تكلف الدولة أكثر مما تكلف المواطن وكان يضع الملصقات عند كل مأخذ كهرباء للتذكير بالاقتصاد في استخدام الكهرباء. وكذلك كان يفعل في استخدام الماء).

ولعل من الضروري أن نذكر أن (الكهرباء) وهي نعمة من نعم الله الكبرى التي اكتشفها الإنسان في عصرنا الحديث، وأن (الماء) وهو النعمة الجلى التي جعل الله منها كل شيء حي، ووجدها الإنسان على سطح هذه المعمورة، كضرورة من ضروريات حياته وبقائه، وهو النعمة التي هدد الله سبحانه وتعالى الكافرين بإخفائها ومنعها والحرمان منها حين قال وهو أصدق القائلين: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ} (30)سورة الملك.

لعل من الضروري أن نذكر أن (الماء) و(الكهرباء) وهما نعمتان كبيرتان عظيمتان مهمتان غاية الأهمية في حياتنا، لا يزال الكثير منا يتعامل معهما بطريقة الإسراف والتبذير والهدر وعدم المبالاة! وعلى ذلك فما أحوجنا إلى ملصقات فقيدنا الكبير المهندس (محمود طيبة) عليه رحمات الله نضعها بل نثبتها على مصادر (الماء) ومآخذ (الكهرباء) في بيوتنا..

وفي مجال حرصه عليه رحمة الله على حرمة المال العام تلفت السيدة (سمر) النظر إلى قضية ينظر إليها كثير من الناس على أنها بسيطة وهي ليست كذلك فتقول: (كان حريصاً غاية الحرص ألا نستخدم الأوراق - الرسمية - التي كانت توفرها له الدولة في استخدامنا الشخصي حرصاً منه وتورعاً رحمه الله من استخدام المال العام)..

وتذكرني هذه الخصلة الرفيعة، وهذه الخلة العظيمة في هذا الرجل برجل آخر هو السيد (شاكر السباعي) عليه رحمة الله رئيس كتّاب العدل في سورية قبل حوالي خمسين عاماً، فقد كان أحد (الأسرة السباعية) الحمصية وهي أسرة عريقة يعود إليها عدد من الشخصيات البارزة المعروفة ومنهم على سبيل المثال الدكتور (مصطفى السباعي) عليه رحمة الله الذي كان أخطب خطباء عصره فقد استمعت إليه أكثر من مرة، يخطب الساعة والساعتين بصورة ارتجالية ساحرة، تشدك إليه طيلة الخطبة ودون أن يقع في غلطة أو خطأ لغوي أو في إعادة مخلة أو في تعتعة أو لجلجة.. وقد تسنم عمادة كلية الشريعة في (جامعة دمشق) في أواخر حياته.

لقد ذكرتني السيدة (سمر) وهي تذكر بعض صفات أبيها الرفيعة العالية بالسيد (شاكر السباعي) عليه وعلى أبيها رحمات الله، فقد دخلت عليه في مكتبه ذات يوم، وكانت لي (معاملة) عنده، وكان يعرفني من خلال (التلفزيون) ويحبني وقد اقتضت تلك (المعاملة) أن أكتب معروضاً، فتناولت ورقة من على مكتبه وحاولت أن أكتب عليها المطلوب فاستوقفني عليه رحمات الله! ثم أخرج من درج المكتب ورقة أخرى وقال لي: اكتب معروضك على هذه الورقة! فأصابني شيء من الدهشة والاستغراب لكنه سارع إلى الكلام وقال: هذه الورقة التي كنت ستكتب عليها هي ملك للدولة ولا يجوز استخدامها لأمورنا الخاصة وأما الورقة التي أعطيتك إياها فهي ملكي الشخصي وقد سمحت لك أن تكتب معروضك عليها!!

إنني أتذكر وأنا أستعرض خصال فقيدنا العظيم ونظرائه الكرام قول الشاعر العربي (الفرزدق) حين يقول:

أولئك آبائي فجئني بمثلهم

إذا جمعتنا يا جرير المجامع

ثم تشير السيدة (سمر) إلى طريقة أبيها - عليه رحمات الله - المتميزة في التربية فتقول: (لا أذكر أنه وقف أمامي يوماً محاضراً أو مؤنباً ولم يفرض علي قراراً وإنما جعل من نفسه قدوة حية، وأنموذجاً مثالياً يتحرك أمامنا، غرس في قلوبنا حبه فلم نملك إلا أن نحتذي به).

وللمهندس (محمود طيبة) عليه رحمات الله فلسفته المتعلقة بالإجازة السنوية من العمل والبعد عن مشاغل الحياة ومتطلبات السعي في مناكبها، ففي رأيه أنه (لا راحة لمؤمن دون لقاء وجه ربه) كما يقول عليه الصلاة والسلام.

فلا إجازة، ولا هروب من العمل الصالح، ولا كسل ولا تواني عن عمل الخير، تقول ابنته (سمر) في هذا الميدان: (لقد كان يردد دوماً أن المسلم ليس له إجازة في الدنيا) ثم تقول: (وحتى عندما كنا نسافر معه - رحمه الله - في الإجازات الصيفية كان يملأ جل وقته بأعمال متفرقة بعضها خاص بعمله كرجل في الدولة وبعضها في العمل الخيري!).

***

وتقول ابنته الدكتورة (وفاء) في مقالها عنه تحت عنوان: (ليتني أعيش في جلباب أبي) واصفة حياتها الأسرية مع أبيها - يرحمه الله - وأمها وإخوانها وأخواتها متعهم الله بالصحة والعافية والسعادة: (لقد عشنا استقراراً أسرياً قلما يتاح لأحد، غمرنا - أبونا - بحبه كان يكن الاحترام والحب لوالدتي.. كبرنا وتزوجنا وخرجنا من البيت، ولم نسمع خلافاً واحداً قط بينهما. كان يحترم والدتي وكانت تحترمه ويحترمان مشاعرنا كأطفال يمكن أن تتأثر نفوسنا بأي كلمة بل كان دوماً يردد: الله يرزقكم سعادة كسعادتنا).

ثم تقول: (لم يفرق - رحمه الله - بين أبنائه وبناته على الإطلاق، فقد كان هاني - الأخ الأكبر في الأسرة - يقوم بغسل الأطباق وتنظيف طاولة الطعام كمساعدة لوالدتي مثلنا نحن البنات!).

ثم تتحدث عن حرصه على أن يقضي بعض الوقت مع الأسرة في البيت أو في رحلة قصيرة أسبوعية لبعض الأماكن القريبة، كذلك فقد كان حريصاً على صلة الأرحام والاجتماع الدوري في سبيل ذلك في بيت واحد من الأعمام أو الأقارب وذلك لينتقل التوادد والتراحم والتعاطف من جيل الكبار إلى الأجيال اللاحقة.

تتحدث الدكتور (وفاء) كذلك عن أن أباها - يرحمه الله - كان قوي التفكير حاد الذكاء، وكانت له نظرة وهو يستمع ويتابع كلام محدثه معناها لقد (فهمت ما لم تقله).

كان مهندساً كما هو معلوم، وكان يحب (الرياضيات) بل كان حبه لهذه المادة متميزاً. وقد اتجهت الدكتورة (وفاء) في المرحلة الثانوية إلى القسم العلمي من الدراسة وأحبت مادة (الرياضيات) مثل أبيها - يرحمه الله - وكثيراً ما كانت تلجأ إلى مساعدته حينما تصعب عليها مسألة، فيجلسان سوياً ويتعاونان على حلها. وفي اليوم التالي يقول لها: إن المسألة التي حللناها يوم أمس لها حل ثان ويشرحه لها! وعندما يعود من العمل مساء كثيراً ما كان يقول لها: (وفاء، المسألة حقت أمس لها حل ثالث).

ويذكرني هذا الذكاء المفرط وهذا التفكير السليم بعالم (الرياضيات) المشهور (مونج) أبي الهندسة التكميلية أو الترسيمية أو الوصفية، فقد كان يختبر في مرحلة من مراحل الدراسة، وانتهى الوقت المحدد للاختبار، وطلب من الجميع تسليم الأوراق، فاستأذن (مونج) وطلب منحه خمس دقائق قبل أن يسلم ورقته، فاستغرب الأستاذ المراقب من هذا الطلب لاسيما وأنه يعرف أن (مونج) طالب متفوق! وقال له: لمَ تطلب هذه الدقائق الخمس؟ فقال (مونج): أحتاج هذه الدقائق لأنجز الطريقة السابعة في حل هذه المسألة التي بين يدي يا سيدي!!

كان (محمود طيبة) عليه رحمات الله يهتم بإكرام ضيوفه وخدمتهم وإسعادهم وتقديم كل ما يدخل السرور إلى قلوبهم. أما في أيامه العادية فلا يحب أن تطبخ (أم هاني) زوجته الكريمة - أطال الله في عمرها - وأن تضع على المائدة أصنافاً كثيرة، وكان يقول: (عندما يكون هناك طبق واحد نعرف ماذا نأكل) وكان يردد حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه) وكان يردد على مسامعنا في كثير من الأحيان قول الله تعالى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا} كما تقول الدكتورة (وفاء) ابنته الكريمة.. وتقول أيضاً وهي تصف محبته لأصهاره ولبناته واحترامه لهن، واحترامه كذلك للكبير والصغير وتقديره لمن حوله ولو كان قريباً جداً: (أحب أزواجنا كأبنائه وزوجات أبنائه كبناته واحترم الكبير والصغير، فلا ينادي زوجي خالد طيبة إلا بالدكتور خالد مع أنه ابن أخيه، وعندما كان يرسل لي مظروفاً في شأن من شؤون العمل بمجلس الشورى كان دائماً يعنونه: ابنتي الحبيبة الدكتور وفاء طيبة).

كان فقيدنا العظيم - يرحمه الله - يحب الشعر، وتهزه قصائد الشعراء المجيدين.. أحب قصائد الدكتور عبد الرحمن العشماوي الشاعر الإسلامي الكبير، وقصائد الدكتور (غازي القصيبي) الشاعر العبقري الملهم، وربما احتفظ بهذه القصائد وربما صور بعضها وأرسل صورها إلى أبنائه وبناته وإخوانه وأصدقائه.

لم يكن يقرض الشعر، فوهب له ابنه الأصغر (محمد) حفظه الله، ومعه هذه الموهبة كما تقول الدكتورة (وفاء).

لم يكن يرى في مناصب العمل العام إلا أنها مسؤوليات وأنها مجال من المجالات الواسعة التي يتمكن فيها المرء من طاعة الله سبحانه وتعالى في عمارة أرضه وخدمة عباده. تقول الدكتورة (وفاء): (استشرته وهو - رحمه الله في مرض موته - في منصب عرض عليَّ في جامعة الملك سعود حيث أعمل وكنت مترددة جداً في قبوله لرغبتي في أن أكون بجواره أكبر وقت ممكن في مرضه فقال لي: لابد أن تقبلي. قلت: لماذا؟ قال: الإنسان لابد أن يرتقي في المسؤوليات. فاستخدم كلمة مسؤولية ولم يقل يرتقي في المناصب، فما المناصب في نظره إلا مسؤولية يجب تأدية حقها والرقيب هو الله ولا أحد غيره).

***

وتشير حفيدته الكريمة (مها خالد طيبة) إذ إنها ابنة بنته الدكتورة (وفاء) وابنة ابن أخيه الدكتور (خالد) في نفس الوقت تشير في رثائها جدها تحت عنوان: (اشتقت إليك جدي الحبيب) إلى عدد من النقاط المهمة التي تدل على التعامل الحكيم الرحيم الذي كان يتعامل من خلاله مع فتيان وفتيات الأسرة، من الشباب وصغار السن، وكيف كان يحترمهم ويشجعهم ويقدر مشاعرهم بالرفق والكلام اللين والإحسان، وكيف كانوا يعاملونه بالاحترام والتقدير ويبادلونه مشاعر المودة ويشتاقون إلى وجهه الباسم وحديثه العذب وشخصيته اللطيفة المطمئنة.

(بسمة جدي كانت شعار وجهه، فحتى عندما كنت أقول شيئاً قد لا يتفق معي فيه، كان يبتسم ويهز رأسه ويقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم يسكت! فكان في الصمت طلب خفي لإعادة النظر ومراجعة الفكرة!).

وكان كثيراً ما يستشير غيره في الأمور العامة، كان يستشير القريب والبعيد والكبير والصغير، فقد أدرك - رحمه الله - حكمة وأهمية الأثر الذي يقول: (ما خاب من استشار ولا ندم من استخار). تقول (مها): (كثيراً ما كان جدي يأخذ برأينا ويشاركنا في أمور تهمه، فمثلاً كان كثيراً ما يعطينا مداخلة ألقاها في مجلس الشورى لنقرأها) ونبدي رأينا فيها وملاحظاتنا عليها. وكان عليه رحمة الله يهتم بتلك الآراء والملاحظات ويحيل الصالح المفيد منها إلى حيز التنفيذ، تقول (مها): (لن أنسى حين طلب مني مرة أن أبدي رأيي في التقرير السنوي لدار الأيتام في البوسنة، فوضعت ملاحظاتي عليه وشرحت لجدي ما أقصد بكل نقطة. وبعد أربعة أشهر تقريباً يأتي إلى منزلي ظرف كتب عليه بيده: حفيدتي الحبيبة الدكتورة - باعتبار ما سيكون - مها خالد طيبة حفظها الله، وإذا به خطاب - جوابي - من رئيس دار الأيتام موجه إليَّ يرد على كل الملاحظات التي أشرت إليها!.. هكذا كان جدي يشعرنا أن رأينا مسموع ومهم)!

وكان رحمه الله يهتم بكل الأمور وحتى في الأمور الصغيرة كان يحرص على أدائها والقيام بها، فعلى الرغم من وفرة السائقين كان يصر - كما تقول مها - على أن (يستقبلنا بمشلحه الأسود الجميل عند باب الطائرة بعد الغياب الطويل ويسلم علينا جميعاً!)

ثم تطلق (مها) بارك الله فيها سلسلة من أشواق المحبة والذكريات الغالية التي لا تغيب عن مخيلتها، ولا تبتعد أبداً عن تفكيرها فتقول: (سأشتاق إلى السلام عليه عند باب بيته عند خروجه للصلاة في المسجد.. سأشتاق إلى صوته وهو يثني على جدتي بعد وجبة العشاء.. سأشتاق إلى مزاحه ومداعباته لنا جميعاً.. سأشتاق للركوب معه لمسجد الملك خالد عليه رحمات الله في شهر رمضان) لأداء صلاة التراويح (سأشتاق إلى ذلك الرجل الذي أحب الله ورسوله فأحبه كل من عرفه).

***

وفي المقال الذي كتبه الأستاذ (هاني) الابن الأكبر لفقيدنا العظيم طيب الله ثراه تحت عنوان: (محمود طيبة شخصية لكل الوطن) الكثير من الإشارات الدالة على سلوكه الأسري العالي وعواطفه السامية وتواضعه الجم والكثير من القيم الإسلامية والمثل العليا التي يتمسك بها ويدعو غيره إلى التمسك بها كذلك؛ يقول الأستاذ (هاني): كان هناك ود وتوافق يضرب به المثل بينه وبين والدتنا أطال الله في عمرها، فقد سألته الممرضة في المستشفى: هل تحس بتسارع في نبضات القلب؟ فأجاب قائلاً: ليس بأسرع من نبضات قلبي عندما أنظر إلى أم هاني!!).

وعلى الرغم من مشاغل (أبي هاني) - رحمه الله - الكثيرة وأعماله التي تغطي معظم أوقاته، فقد كان حريصاً على تدريس أولاده بنفسه يقول الأستاذ (هاني): (كان كثيراً ما يدرسنا دروسنا شخصياً في أيام الجمعة!).

ويذكر (هاني) حادثتين اثنتين تتعلقان به شخصياً ويبين موقف والده منهما، وأنه أراد له أن يعامله الآخرون كغيره من الناس بلا محاباة، وبلا مراعاة أنه ابن واحد من المسؤولين المعروفين، وبذلك يضرب المثل في النزاهة والعفة والتربية العالية، وأنه يريد لأولاده أن يعتمدوا على أنفسهم بأنفسهم بعد توفيق الله؛ فبعد تخرج (هاني) في الجامعة بدأ يشتغل في إحدى الشركات، فما كان من (أبي هاني) - يرحمه الله - إلا أن اتصل بمدير تلك الشركة وطلب منه ألا يعامله أية معاملة خاصة، وأن يحرص على أن يكتسب الخبرة في العمل مثله مثل غيره تماماً!

والأمر الآخر كما يقول (هاني) بأنه رسب (في السنة الثانية ثانوي في مادة الفيزياء لظرف خاص قد يمر به الكثيرون. فتحدث معه مدير المدرسة قبل صدور النتيجة وأخبره بالأمر واقترح عليه أن يأخذ من علامات المواد الأخرى ويضيفها لمادة الفيزياء حتى لا أرسب وعزز المدير اقتراحه بأنني قد استحققت تلك الدرجات على أية حال. فرفض الوالد - رحمه الله - رفضاً باتاً وقال لمدير المدرسة: دعه يرسب أنا أريد من هاني أن يتعلم، أن لا يسمح للظروف التي قد تمر به في حياته أن تؤثر على تحصيله العلمي!!).

كان يحب من أولاده ومحبيه وأصدقائه والعاملين معه أن يتقن كل واحد منهم العمل المطلوب منه وأن يحسن في إنجازه، وكان يوصينا ويذكرنا دائماً بحديث الرسول عليه الصلاة والسلام - كما يقول الأستاذ (هاني): (إن الله يحب من أحدكم إذا عمل عملاً أن يتقنه)..

وكان يرى رحمه الله - وهو على حق - أن كل ثانية في حياة المسلم مكتوبة محسوبة إما له وإما عليه، فاختار - رحمه الله - كما يقول الأستاذ (هاني): (أن تكون ثواني حياته محسوبة له قدر ما يستطيع بالكلمة الطيبة، بالفعل الحسن، بالتبسم في وجه من يلقاه، بالتواضع الجم لله، بالأعمال الخيرية، بتقوى الله سبحانه في السر والعلن، بإحسان النية في كل عمل يعمله، بقيام الليل وحسن العبادة).

رفض الرشوة ومبلغها الكبير الذي عرض عليه - كما هو معروف - ذلك أن الإنسان المسلم قاعدته حيال هذه الأمور (أما الحرام فالممات دونه) وكيف يرتشي من خاف مقام ربه؟ وكيف يرتشي من آمن بالآخرة وسعى لها سعيها؟ وكيف يرتشي ويرتكب أي نوع من أنواع الحرام وبين عينيه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو أن الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء)؟.

ولقد تحدث الناس كثيراً عن حادثة الرشوة التي رفضها - رحمه الله - ولكن الذي لا يعلمه الكثيرون - كما يقول الأستاذ هاني: (أنه لم يكن ينوي حتى إخبارنا بالقصة لولا إلحاح الوالدة الكريمة عليه قائلة: ليتعلموا منك ويفخروا بك فرواها لنا باستحياء بالغ، فقد كان ينظر إلى كل ما يقوم به من عمل رسمي على أنه واجب وأنه من الطبيعي القيام به وأن هذا لا يستحق - من وجهة نظره - أن يتحدث عنه، فكل ما في الموضوع أنه أدى واجبه المطلوب منه!).

وكان للفقيد الكبير عليه رحمات الله نظرته في أن (الجاه) الذي يهبه الله لبعض الناس عليهم ألا يبخلوا به لخدمة غيرهم، ومساعدتهم في الحصول على حقوقهم وإعانتهم على الوصول إلى أبواب أصحاب النفوذ في سبيل ذلك طمعاً في ثواب الله سبحانه وتعالى، الذي يقول نبيه الكريم: (والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه)، يقول الأستاذ هاني: (لقد رزقه الله جاهاً فرأى أن من واجبه تأدية حق الله في هذا الجاه، فكان - رحمه الله - يبذله في أعمال الخير لا يضيره من أغلق بابه في وجهه!).

***

ويروي المهندس (سامي البحيري) أخو السيدة (أم هاني) - حفظها الله - زوجة فقيدنا الغالي عليه رحمات الله، أن الفقيد كان أول مهندس كهرباء سعودي في تاريخ المملكة العربية السعودية، وكان يدرس هذا التخصص العلمي في مصر في جامعة (القاهرة) في منتصف الخمسينيات من القرن الميلادي الماضي، وكان زميلاً لشقيقه المهندس (مصطفى البحيري) الذي توفي منذ سبعة أشهر - عليه رحمة الله - وكانا يدرسان تخصصاً واحداً، وكان محمود طيبة - رحمه الله - يجيء إلى منزلنا في حي مصر القديمة - كما يقول المهندس سامي البحيري (لكي يذاكر مع شقيقي المهندس مصطفى البحيري عليه رحمة الله).. ويضيف المهندس (سامي البحيري): (أذكر أن والدي - رحمه الله - الشيخ (أحمد البحيري) حكى لنا هذه القصة مائة مرة على الأقل! وهي أن (محمود طيبة) قد تقدم بطلب يد أختي ولم تبلغ بعد السادسة عشرة من عمرها، وقال (محمود) لوالدي وقتها: إنه لا يملك من حطام الدنيا أي شيء - فقال له والدي: إذا أمسكت بحفنة من تراب الأرض، وأعطيتها لي لتحولت ذهباً بفضل أخلاقك وتهذيبك، وقد كان. وتمت الخطوبة وكان من نصيب شقيقي حفنة تراب تحولت ذهباً حقيقياً بعد الزواج لما رأت من كرم أخلاقه ونبله واحترامه لزوجته ولمشاعرها، واحترام أسرته القريبة والبعيدة) ألا ما أروع هذا الزواج! وما أعظم بركته! وما أكثر آثاره الإيجابية الخيرة! وخاصة ما نتج عنه من أبناء بررة كرام وبنات صالحات كريمات!

وما أروع ولي البيت في هذا الزواج وما أنبله وما أكرمه!! وما أصدق ذلك الخاطب الذي صار زوجاً وما أصفاه وما أتقاه!! فلا نامت أعين الجبناء! ولا نامت أعين المغالين في المهور واحتفالاتها! ولا نامت أعين المتمسكين بالعصبيات القبلية المتشبثين بالعادات والتقاليد البالية! لا نامت أعينهم! ولا سكنت نفوسهم! ولا اطمأنت قلوبهم!!

ثم يقول المهندس (سامي البحيري) شقيق السيدة (أم هاني) بارك الله فيهما: (كانت أول زيارة لي لمدينة الرياض عام 1975م بعد أن ساعدني محمود طيبة في الحصول على وظيفة مهندس بشركة مقاولات بالرياض، وأصر محمود طيبة بكرمه غير العادي أن أعيش في بيته في مدينة الرياض بمنطقة عليشة، وأصبحت جزءاً من أسرة محمود طيبة. وقد خفف هذا عني كثيراً شعور الغربة عن بلدي مصر. وتعرفت أكثر على محمود طيبة وعلى إخوته الذين كانوا يتناوبون سهرة عشاء في منزل أحد الأشقاء مرة كل ليلة خميس، وكان محمود طيبة حريصاً أشد الحرص على هذا التقليد.. واستمر هذا التقليد ولم يتوقف إلا بعد انتقال كل الإخوة إلى المنطقة الغربية، وظل محمود طيبة في الرياض).

***

ولقد أكدت الدكتورة (وفاء طيبة) وأيدها كذلك أخوها الأستاذ (هاني) أن الشعار الذي كان يتمسك به أبوهما - يرحمه الله - ويعمل على تنفيذه في كل شؤون حياته، ولذلك فقد وضعه لوحة كبيرة في مكان بارز من البيت يقرؤه في الصباح والمساء، ويذكره ويتذكره في سره وعلانيته ليعيش معه دائماً ويوجه إليه غيره بالحكمة والموعظة الحسنة هو قول الله سبحانه وتعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} (77) سورة القصص.

أرأيتم معي قرائي الأعزاء إلى هذه المبادئ السامية! والمثل العليا، والقواعد الإسلامية الأساسية التي احتوتها هذه الآية القرآنية؟

- أجعل الآخرة نصب عينيك في كل عمل من أعمالك..

- ولا تنس حظك من الدنيا وسعيك فيها..

- وليكن الإحسان ديدنك وطريقك في كل عمل تعمله..

- وأحسن في عملك كما أحسن الله إليك..

- ولا تكن فاسداً مفسداً في أرض الله ولا بين عباد الله..

- فالله وهو الخالق البارئ المصور لا يجب المفسدين..

إنها إحدى الآيات القرآنية العظيمة التي جمعت فأوعت، جمعت كل مبادئ الإسلام وأهدافه وآياته في ست وعشرين كلمة! وفي حقيقة الأمر أن كل آيات القرآن جامعة مانعة!.. لقد كان فقيدنا العظيم يحسن الاختيار ويحسن كذلك التأسي والعمل.

***

يقول الأستاذ (هاني) مخاطباً أباه وقد فارق الحياة: (رحلت ووجهك كالقمر المنير والابتسامة تعلو محياك) أتدرون لماذا علت الابتسامة محيا (محمود طيبة)؟

إنها نتيجة طبيعية للبشرى التي تلقاها في الدنيا قبيل انتقاله إلى العالم الآخر؛ فالله تعالى يقول وهو أصدق القائلين: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (62-64) سورة يونس. ويقول جل جلاله: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلًا مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ}(30-32) سورة فصلت.

ولقد صاغ هذه الحالة الروحية الإيمانية العالية التي تسكن الإنسان المؤمن حينما يتوجه إلى حبيبه الرحيم الرحمن، يتوجه إلى لقائه، يتوجه إلى رحاب عفوه وكرمه ومغفرته وإحسانه ورضوانه، لقد صاغ فيلسوف الإسلام وشاعره الكبير الدكتور (محمد إقبال) عليه رحمة الله، صاغ هذه الحالة الروحية العالية عندما يفارق الإنسان المؤمن هذه الدنيا الفانية ببيت من أبيات شعره فقال:

آية المؤمن أن يلقى الردى

باسم الثغر سروراً ورضى

***

قارئي العزيز:

هل تعلم السر أو السبب الخاص الذي جعل فقيدنا يغادر هذه الدنيا وهو راض كل الرضى ووجهه مشرق بنور الإيمان، وعلى محياه ابتسامة المؤمن التي تدل على سروره بما رأى، وحبوره بما سمع، وطمأنينة قلبه بما هو قادم إليه؟! أظنني قد توصلت إلى هذا السر! أو قل إن شئت وهذا هو الأصوب أنني قد توصلت إلى سر من تلك الأسرار الكثيرة، وسبب من الأسباب العديدة!!

إنني أدعوك إلى معرفة قصة اليتيمة المعوقة (روان) التي ترويها لنا ابنة الفقيد الكريمة الدكتورة (وفاء طيبة) فتقول: (لن أتكلم عن عمله مع الأيتام فقد تكلم عنه كثيرون، ولكني أقول إنه انتقل إلى بيت حي الرائد، حيث كان من المخطط أن نسكن جميعاً أنا وزوجي، وأختي سمر وزوجها ليكون بجوارنا، وليبني منزلاً مناسباً ل(روان) الطفلة اليتيمة المعوقة التي يرعاها وأمي مع أنه كان في السبعينيات من عمره وصمم المنزل الجديد ليكون مناسباً للطفلة حيث في البيت مصعد وخدمات أخرى مناسبة لإعاقتها. ولم يستخدم - رحمه الله - المصعد ليصعد إلى غرفة نومه قط إلا في الشهرين الأخيرين من عمره وفي أيام مرضه وكأنه يريد أن يقسم لربه أنه لم يقم ذلك المصعد في البيت إلا ل(روان) اليتيمة التي أحبها ورعاها ولم يكن لينام حتى يسلم عليها ولا يسافر إلا ويتصل بها يطمئنها على سلامة وصوله.. تتدلل عليه قائلة: بابا أبغى فلوس، يخرج مئات الريالات من جيبه ويعطيها!!)..

ألا فلمثل هذا فليعمل العاملون..

وعلى مثل هذا فليتنافس المتنافسون..

وعلى مثل هذا فلتنفق الأموال ولتبذل الطاقات ولتفن الأعمال ولتمض الأيام والسنون..

***

وبعد:

ذلك هو (محمود طيبة).. وتلك هي حياته.. وتلك هي مسيرته.. وعلى مدى الأسابيع الماضية كما في هذا المقال شهادات عنه وصور عن نشاطاته في حياته في بيته مع زوجته وأولاده وأرحامه، وفي عمله مع رؤسائه ومرؤوسيه ومعارفه ومراجعيه، في حضره وفي سفره داخل الوطن وخارج الوطن في أرجاء العالم الإسلامي كله..

ذلك هو (محمود طيبة) الذي حرص على أن يكون كما أراده الله عبداً لله مطيعاً له حريصاً على تنفيذ أوامره سعيداً بالابتعاد عن نواهيه راضياً بقضائه وقدره..

وقد بنى أسرته - وشاركته في لك زوجته الكريمة - على البر والتقوى فربى أبناءه وبناته التربية الإيمانية العالية وزودهم بما يحتاجونه من صنوف العلم والمعرفة وزرع فيهم أن إتقان العمل مما يحبه الله ورسوله، وأن يعتمدوا بعد الله سبحانه وتعالى على أنفسهم وجهودهم واجتهاداتهم، وأن لا يكونوا عالة على جاه أبيهم وسلطانه، وأشعرهم أن وظائف الدولة مسؤوليات يجب تحملها، وأمانات يجب المحافظة عليها، وليست مناصب ولا تشريفات..

وكان عند حسن ظن ولي أمره به وموضع ثقته، فكان أهلاً بكل المراكز التي شغلها، والمواقع التي قاد دفتها، فأوصل الكهرباء - بعد توفيق الله ودعم قادة هذه البلاد - إلى كل مكان يمكن الوصول إليه مدينة أو قرية سهلاً أو جبلاً شاطئاً أو صحراء.. فأثبت بذلك أنه مهندس الكهرباء الأول في المملكة ليس فقط من الناحية الزمنية التاريخية، بل من الناحية العملية التي يسعد بها الإنسان..

ذلك هو (محمود طيبة) معيل الفقراء وكافل اليتامى! اليتامى في كل مكان.. في ربوع المملكة.. وفي بلاد الهند والباكستان.. وفي روابي البوسنة والهرسك.. وحتى في بيته الصغير في حي (الرائد) بالرياض إذ إن الطفلة اليتيمة المعاقة (روان) ليست بعيدة عنا!!.

فهنيئاً لك يا (أبا هاني) وجموع الأيتام من الصبيان والبنات يستقبلونك بإذن الله على أبواب الجنة السبعة، وهم يشكلون طلائع المستقبلين الكثيرين الآخرين من ذوي أرحامك ومن الذين قضيت حوائجهم ومن الفقراء والمساكين والسائلين الذين أعنتهم أو أسعفتهم أو أغثت لهفتهم.. وصدق الله العظيم الذي يقول في محكم كتابه: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ وَجَاء بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ} (31-35) سورة ق.. أذكر أن الأستاذ (سعيد الطنطاوي) طيب الله أيامه - وهو الأخ الأصغر للأستاذ علي الطنطاوي عليه رحمات الله، وهو أحد الأساتذة الذين درسوني في المرحلة الثانوية قبل حوالي خمسين عاماً - قال لنا: إن معنى (ولدينا مزيد) التي وردت قبل قليل، هو الخلود في نعيم الجنة ومسرّاتها إلى ما لا نهاية من الزمان.

وقد سمعت فضيلة الشيخ (محمد بشير الباني) عافاه الله - وهو أحد خطباء الجامع الأموي الكبير في دمشق وعضو محكمة التمييز السابق وأحد خلفاء سماحة الشيخ أحمد كفتارو رحمه الله البارزين - سمعت فضيلته يروي حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيه: (ثلاثة في الجنة خير من الجنة، رؤية الله في الجنة خير من الجنة، وصحبة الأنبياء والمرسلين في الجنة خير من الجنة، والخلود في الجنة خير من الجنة).

ولاشك أن قمة هذه الأمور العظيمة المسعدة التي تورث النعيم الأبدي هي النظر إلى وجه الله الكريم..

***

قالت السيدة (سمر محمود طيبة) وهي تدعو لوالدها في نهاية مقالتها عنه:

اللهم إني أشهدك أنه كان بنا كريماً فأكرمه..

اللهم إني أشهدك أنه كان بنا رحيماً فارحمه..

اللهم إني أشهدك أنه كان بنا محسناً فأحسن إليه..

اللهم أحسن نزله، وأرفع في الصديقين درجته، وأجمعنا به في مستقر رحمتك..

وأنا أقول ومعي مئات آلاف محبي (محمود طيبة) من أهل وأرحام ومريدين وأصدقاء ومعارف وإخوان له في الله آمين.. آمين.. آمين.

د. زهير الأيوبي

للاتصال: z-alayoubi@hotmail.com

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد