من العجيب أن يتراشق البشر فيما بينهم بأنهم لا يقبلون الآخر، فالعرب لا يقبلون الغرب بدعوى العادات واختلاف الأديان فيما بين الإسلام والمسيحية واليهودية، والغرب لا يقبل العرب بدعوى التعصّب لدينهم والركون إلى عادات وتقاليد لا تتناسب مع هذا العصر الإلكتروني.
ويخيل إلى السامع أو القارئ لمثل هذه الأقوال أننا سنطير قريباً بدلاً من الطائرة في كبسولات فضائية من بلد إلى آخر، ولن تكون هناك حاجة أو ضرورة لجواز سفر تحمله أو تذكرة ذهاب وعودة، بل كل شيء سيتم الكشف عليه من خلال بصمة عينك حتى ولو كنت كفيفاً، ومن ينتمي فكرياً إلى هذه الأقوال يتشدق بها في كل مقام يكون فيه أو عليه، إلى أن نشأ جيل يحمل الاستشراق القائم على رواية كل ما هو طريف وظريف وغريب، لكن من دون مستشرقين حقيقيين.
الحقيقة أن غالبية البشر لا يفهم أن هناك أموراً تفهمها الشعوب، وأخرى يفهما القادة، ولا تستطيع الشعوب فهمها، أو حتى محاولة الاقتراب منها، فهي مناطق ساخنة، والنتيجة أن كل مناحي حياتنا تم تسييسها بما يتناسب والمصلحة الدولية التي تصب في بوتقة الأقوى، بل صار الحديث الآن عن حوار الشراكة بين الأقطار المختلفة، شراكة قائمة على المنفعة لكل طرف.
بل والطريف أن بعض الذين يدعون أنهم كتاب ومفكرين عرب، لا ينقلون للناس ما هو حقيقي، بل يكتبون ويتوقعون ما يريدون متجاهلين أن العالم الآن لا يمكن فيه التكتم على أمر مهما كانت خطورته بفضل الإنترنت، لكن طريقة التناول هي المحك الرئيس، فتحدث هوة سحيقة بين ما هو موجود في الواقع، وما هو في خيالات كتاب يعيشون في ثقافة قرون ماضية، ثقافة الصوت العالي من دون العمل الحقيقي القائم على تداول الحقيقة، والتي اكتشفت أنه من الصعب جداً تداولها إعلامياً، فكل جهة لها وجهة نظرها في النقل بما يخدم مصلحتها، من دون النظر إلى الحقيقة مجردة من أي مصلحة، لأن التاريخ يعرف ويدون هذه الحقائق التي يتم التعتيم عليها إعلامياً، ويفضحها التاريخ فيما بعد.
من هذه الأقوال التي أستطيع أن أستشهد بها حوار تليفوني دار بيني وبين نهاد عوض مدير مجلس العلاقات الإسلامية الأمريكية، وكنت أتحاور معه حول الهدف من الدعوة لإقامة حوار للأديان مثلاً، فأجابني بمنتهى البساطة قائلاً: أنا بوصفي مسلماً أمريكياً أرى أن الحوار مهم جداً الآن من أجل إقامة الشراكة القائمة على المصلحة بين الشعوب، فكل جهة سترعى مصالحها من خلال هذا التفاهم الذي ينادي به في الحوار بين الأديان مثلاً، وحين تطرق الحديث معه عن توقعه لفوز باراك أوباما في الانتخابات الأمريكية وأن الكتاب الصحافيين يرون أنه من المستحيل أن يكون (أسود) رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية، سألني مقاطعاً: من هؤلاء الكتاب، قلت له الكتاب العرب، فقال لي: أنت قلت بنفسك الكتاب العرب، ولم تقل الكتاب الأمريكان، أنا سأختار باراك أوباما في الانتخابات، وأتوقع نجاحه.
انتهت المكالمة الهاتفية فيما بيني وبين الأخ نهاد عوض، لكني فكرت قليلاً فيما قال عن نظرية قبول الآخر القائمة على الشراكة، فوجدت أن الكلام منطقي جداً.
وبعد أسابيع معدودة أطلت علينا الصحف العالمية بخبر مباركة كبير قضاة بريطانيا اللورد فيليب بجعل الشريعة الإسلامية أحد مصادر القانون البريطاني، أذهلني الخبر، وتساءلت بيني وبين نفسي: هل من المعقول أن ينادي كبير قضاة بريطانيا بهذا المطلب الذي أعرف مسبقاً أنه سيجر عليه مشاكل كثيرة من جانب التيار اليميني المتطرف في بريطانيا، فاتصلت على الفور بأصدقاء لي عرب وبريطانيين إعلاميين لأسألهم عن هذه الزوبعة التي دارت في لندن عن تصريحات اللورد فيليب، فأجمعوا على رأي واحد هو أن هذه الأقوال تتردد عند اقتراب الانتخابات داخل بريطانيا، ولكن يتنصل الجميع من مثل هذه التصريحات، لابد أن تصدر في البداية تصريحات حتى ولو كانت خاطئة، وقالت لي ريم المغربي رئيس تحرير صحيفة الشرق البريطانية وعضو منظمة مسلمون ديمقراطيون: إن هذه الزوبعة قامت بها الصحف الصفراء التي تستغل أي تصريح لتصفه على الوجه المثير، وأن القاضي فيليب لم يقل مثل هذه التصريحات بل قال: إنه من المستبعد أن يتم إدخال الشريعة الإسلامية إلى القانون البريطاني، لكن من الممكن أن يكون رأي أحد العلماء المسلمين استشارياً، وهذا معمول به منذ أكثر من عشرين عاماً.
من خلال هذه الحوارات التي دارت بيني وبين من يعيش حياته في الغرب، اكتشفت أن قبول (الآخر) مسألة ليست سهلة على الإطلاق، بل من الصعوبة بمكان على كل طرف أن يقبل الآخر، فالشرق شرق، والغرب غرب، كما قال أحد الدارسين من قبل، لكن تبقى جسور التواصل من التعليم والتجارة والاقتصاد، وكل هذه الأمور تحكمها السياسة القائمة أيضاً على المصلحة فقط، والمصلحة تكون في (الشراكة)، والحوار، فهل ستأتي مرحلة يرى العالم من الجانبين (الشرق والغرب) أن الشراكة والحوار والمصلحة إلى جانب احترام ثقافة ودين كل طرف ل(الآخر).. هي الحلول الحقيقية للقبول - ولو على استحياء-!
aboelseba2@yahoo.com