رأينا في الجزء الأول من هذا المقال، كيف عمد صاحب (إدارة التَّوحُّش)، وفي المقدمة تحديداً، إلى الكشف عن إعجابه بخمسة تيارات إسلامية على الساحة، قال إنها تطرح (مشروعات) عملية لتحقيق طموح (الحركة)، في استخدام القوة: (الدم.. الدم.. الهدم.. الهدم)، لإسقاط ما سمَّاه (الحكومات المرتدة)، وخلق دولة (التوحش) التي يُنظِّر لها.
التيارات الخمسة كما قال هي: (السلفية الجهادية، وسلفية الصحوة، والإخوان - الحركة الأم. التنظيم الدولي - وإخوان الترابي، والجهاد الشعبي، مثل حركة حماس وجبهة تحرير مورو..). أما غير هذه الحركات الثورية، فهي (مهترئة) كما قال (ص17)، لأن قادتها ضالون يدعون إلى: (وجوب الحفاظ على النسيج الوطني أو اللحمة الوطنية أو الوحدة الوطنية، فعلاوة على أن هذا القول فيه شبهة الوطنية الكافرة، إلا أنه يدل على أنهم لم يفهموا قط الطريقة السننية لسقوط الحضارات وبنائها). وغير بعيد عنا، مثل هذا الطرح الشاذ حيال الوطن والوطنية، الذي كان يتردد بيننا عبر الخطاب الديني، إلى ما قبل خمس أو ست سنوات.
كل هذه الأفكار وما في مستواها، سواء في المقدمة، أو في أبواب وفصول الكتاب، تؤكد أنها جزء لا يتجزأ من مشروع القاعدة، التي عملت طيلة سنوات طويلة، على أن يكون لها بيارق وفيالق، وأن تنفذ إلى مفاصل إدارية ومالية كبرى، وأن تعد العدة والعتاد، وتكون لها صفوف مقاتلة، وأذرع مساندة، لكل منها زمنه ومكانه المحددين، في كل بقعة داخل المملكة العربية السعودية، لأن نجاحها على أرض المملكة لو تم لها ذلك - لا سمح الله - فسوف يمهد لها كل الطرق، لتحقيق نجاحات كثيرة في أقطار الجزيرة العربية والخليج، وحتى في المنطقة العربية وما حولها، ولكن الله كان لهذه الشراذم الخبيثة بالمرصاد، فالأوباش المتوحشون، الذين برزوا يفجرون ويدمرون ويقتلون ويخربون، لقوا جزاءهم الذي هو جزاؤهم، على أيدي قوات الأمن السعودية البطلة، فقتلوا أو سجنوا، وما عداهم من مؤيدين ومنظرين ومتمنين تحقيق لحظة التوحش الموعودة، أخزاهم الله جل وعلا، فأخرسوا وأسقط في أيديهم، حتى خمد بعضهم واختفى، وحتى غير بعضهم جلده، وحنا البعض الآخر رأسه للريح بتذاكي يحسد عليه، فتبدلت لهجاتهم، وتغير خطابهم، ومع كل ذلك، ستظل جلودهم مُغبرّة، ورؤوسهم محنية إلى أبد الآبدين.
لا نحتاج إلى كثير عناء لمعرفة أثر تكريس ثقافة (إيحاش وتوحيش) الناس من كل الناس، ومن الحياة ومما فيها من متع مباحة، ومباهج متاحة، تمهيداً لخلق (مجاهدين)، يوجهون بنادقهم ضد حكومات ومجتمعات بلدانهم وأقطارهم، على هوى التيارات الحركية الثورية، التي ركبت موجة الصحوة، وكانت تستقوي برموز دينية في المملكة، انطلاقاً من مصطلح حق أريد به باطل، بل وتستعديها على الدولة والمجتمع معاً، فهذا (أبو بكر ناجي)، ينقل عن مشايخ ومنظري الحركة الإخوانية، التي تمددت بخلاياها السرطانية الخبيثة، إلى كل مكان، وعن أسماء لها تلاميذ وأتباع كثر في بلادنا، وهم ما زالوا يدافعون عنها حتى في الفضائيات على رؤوس الأشهاد ويقولون: (لم نعرف عنهم إلا خيراً)..! فهو ينقل عن عبد الله عزام، صاحب الخرافات والخزعبلات الشهيرة، التي لا يصدقها حتى هو نفسه، وينقل عن عمر محمود أبو عمر، الفضائي اللوذعي، والمجاهد اللندني، الذي كان يؤكد من عاصمة الضباب، أو بيت الخلاء الذي ارتضى العيش فيه أنه سوف يقود السعوديين جميعهم بلحاهم إلى الجنة غصباً عنهم، وعن سيد قطب، مهندس الخلايا القتالية العنكبوتية للحركة، ومحمد أمين المصري وغيرهم، ويربط بين مشروعاتهم في الحركة، وبين واقع (حركات الجهاد السلفية)، التي يرى أنها متقدمة على غيرها في فهم الدين وفق السنن الشرعية والكونية..؟!! وأن القيادات الصالحة في هذا المشوار الطويل، لن تبرز إلا من خلال: (المسيرة الطويلة - مسيرة الأشلاء والدماء والجماجم)..!!
الأفكار الواردة في (إدارة التوحش)، تتأرجح بين مصطلحات نابية ومتوحشة فعلاً لا قولاً فقط. طريق التمكين الذي يعني عند الحالمين من الإسلامويين: (قيام الدولة المتوحشة)، يمر بثلاث مراحل: الأولى: (شوكة النكاية والإنهاك)، والثانية: (إدارة التوحش)، والثالثة: (شوكة التمكين)..! شوك، ونكايات، وإنهاك، وتوحش..! والرابط بين الخطوات الثلاث، لا يخرج عن خلق ثقافة تقوم على زرع التباغض والتعادي والتمايز العقدي والمذهبي، بين الفرد والمجتمع، والمجتمع والدولة، وحشر الذهنية الاجتماعية، في زاوية من التوهم، مليئة بالتوجسات والنوايا الشريرة، والتصديق بالخوارق والمعجزات التي تأتي على أيدي مجاهديهم، ولا يصدقها العقل، ففي هذا السياق، أورد قصة خرافية لمجاهد لهم خرج من سيارته وظل واقفاً يضرب برشاشه في مجموعة كبيرة من جنود العدو (رجال الأمن)، الذين لو ضربه واحد منهم - كما قال - برصاصة واحدة لأرداه، لكنهم رموا بأسلحتهم وولوا هاربين وهو يقتل فيهم ولم يصبه شيء..!
قرأت رداً للأخ (جاسر الجاسر)، من جملة ردود وردت على الجزء الأول من هذا المقال قال فيه: (التوحش لا يأتي من كتاب التوحش، بل نحن من يجعل الإنسان متوحشاً في تصرفاته، كأن لا يُعطى علاجاً، وليس شرطاً أن تعيش مع الذئاب حتى تكون متوحشاً،.. هو حالة هستيرية تشعر بالعجز والغبن والظلم وتريد أن تنتقم من المجتمع). أجدني أتفق مع الأخ جاسر في أن التوحش لا يأتي من كتاب التوحش ربما، وأننا نحن من يجعل الإنسان متوحشاً. فكتاب التوحش نفسه صناعتنا ابتداءً، لأنه خرج من رحم ثقافتنا، وثقافتنا نحن الذين نسجناها بما رضيناه لأنفسنا من علاقات جافة، وطباع غير شافّة، وحياة يسودها التجهم، وتلفها السوداوية، ويغلب عليها التوجس والخوف والريبة.
سلمنا زمامنا لقوم خطفوا البسمة من شفاهنا، وظلوا ثلاثة عقود ونيف، وهم يستغلون منابرنا، ومناهجنا ومقرراتنا، لدس الكراهية والبغضاء بين بعضنا البعض، وبيننا وبين غيرنا، وكانوا يبنون ثرواتهم وأمجادهم بين طلابنا وشبابنا في المراكز والمخيمات والمناشط العامة، وفق نمطية تكرس ثقافة الموت والقبر وثعابين القبر وعقاربه وحَيّاته، فظلت أرصدتهم تكبر وتكبر، وأمجادهم تعلو وتعلو، على قبور يحفرونها في أفنية المدارس، وأكفان يوزعونها بعد المحاضرات التي يلقونها، وجنائز يغسلونها ويكفنونها بين أيدي أطفال ونساء، وكهوف مرعبة مليئة بمجسمات موتى تدخلها النساء من باب، فيخرجن من باب آخر مذعورات مرعوبات، بعد تبديل عباءاتهن بأخَر على هوى الكهفيين فقط..!
أتفق مع الأخ جاسر مرة أخرى على أن التوحش حالة هستيرية فيها جوع وغبن وظلم ونحوه، لكن المتوحشين الذين رفعوا السلاح في وجوهنا كانوا (جهاديين) من صفوف القاعدة، ولم يكونوا من صفوف (جاع وظُلم وغُبن)..! هذا.. حسب علمي، وفوق كل ذي علم عليم.