أرسلت أمي ذات صباح نظرة ذات معنى وقالت:
- اسمع يا ولد.
أحسست في صوتها برنة غريبة، لم أسمع مثلها، سوى مرتين في حياتي، كانت الأولى قبل نحو ثلاثة عقود، يوم طلبت مني أن أستيقظ فاستيقظت لأجد أبي وقد مات.
وكانت الثانية يوم أخبرتني أن أختي المقيمة في بلدة أخرى قد احترقت.
دق قلبي بخشية:
- نعم يا أمي.
- اسمع يا ولدي.. لقد كبرت وأنا لا أريد أن أكون عبئا على أحد. يوم الخميس سأذهب إلى مكتب الشؤون سأسأل هناك إن كان بإمكانهم أن يرسلوا إلي من تقوم بمساعدتي حتى أبقى في هذا البيت..
إن لم أجد ذلك سأطلب الذهاب إلى ملجأ..
لا أريد أن أضايق أحدا..
سأبقى هناك حتى أموت..
صمتت أمي وران صمت على الغرفة.. أتراها أرادت أن تمتحن قدرتي على فراقها؟
أم أرادت أن ترسل كتاب عتاب إلى أختي المقيمة في بلدة أخرى.. وتلك المقيمة بالقرب منها..
وربما إلي وإلى زوجتي المتمردة وأخوي وزوجتيهما؟
سألت أمي:
لماذا تقولين هذا الكلام؟
فردت:
- أنت تعرف أنني قضيت عمري لا أحتاج إلى أحد..
وها هو المرض يهدمني.
- لكنك مريضة يا أمي ولست أول من يمرض ولا آخر من يمرض.. ثم إن الله خلق الطب والدوا.
- أي دواء يا ولدي وأي طب..
الموت هو مصير كل إنسان.
فهمت ما أرادت أن تقوله إلا أنني تغابيت شأني في مثل هذه المواقف:
- أعطني يا أمي يومين أو ثلاثة حتى أرى ما يمكن أن أفعله.
وهزت أمي رأسها علامة الموافقة، مضيت خارجا من البيت. لا أعرف إلى أين أتجه ولا ماذا أفعل، سرت في الشارع كان حزينا.. مددت يدي إلى شجيرة ياسمين.. استرخت على سور بيت الجيران.. شعرت بأن الياسمين حزين.. ترى سيأتي يوم أيها الياسمين ولا أراك..
لولا وجود أمي في هذا البيت ما أتيت إلى هذا الحي. وتصورت دمعة تهمي من عيني الياسمين وبغصة في حلقي.
إلى أين سأذهب تاركا هذا الياسمين؟
ومضيت لا أعرف إلى أين أذهب وبي رغبة في أن يبقى الياسمين.. في أن ينشر رائحته الذكية في البيت والحارة والبلدة.. ماذا بإمكاني أن أفعل؟
وإلى أين أذهب في هذا الصباح؟
هل أذهب إلى أختي في البيت القريب؟
أستجديها أن تحدب على أمي كما رعتها أيام كنا صغارا؟ أم أذهب إلى زوجة أخي؟
أم أذهب إلى زوجتي؟ إلى أين أذهب وماذا أفعل؟
ماذا أفعل وأنا أعرف الأجوبة مسبقا؟
أأبقى بانتظار أن يأتي يوم الخميس؟
وأن تنتهي الأشياء من تلقاء ذاتها؟
أعرف أن أمي أرادت أن تحضرني للحظة الأصعب في حياتي وإلا لماذا هي اختارتني من بين الجميع لتخبرني بما أخبرتني به؟
أعرف أنني أعز عليها وأنها تعيش حتى هذا الوقت ولم تسأم تكاليف الحياة من أجلي، أنا طفلها ابن الخمسين. هي لم تخف إحساسها وقالت لابنتي الشابتين يوم تكرمتا وزارتاها إنها تحبني.. وأنها لولا وجودي إلى جانبها لكانت ماتت من زمان.