يحرص البعض في كتاباتهم الصحفية على جعل الزاوية معروضا للتظلم والشكاوى بحجة الاستجابة إلى هموم المجموع أو ما يسمونه نبض الشارع.
ولكننا نجد أن الانسياق الكلي إلى الرأي العام المهيمن من شأنه أن يلغي الرؤية الاستشرافية التحليلية التي من المفترض أن يمتلكها الكاتب, والتي من واجبها أن تطرح أفكارا تحاول بها أن تكسر الجواب المتداول والنمطي والمتاح بين المجموع والذي على الغالب يكون بسيطا خاليا من العمق أو التحليل.
الانسياق وراء نبض الشارع على مستوى الكتابة الصحفية يطوقه عدد من علامات الاستفهام، ففي البداية هل الشارع الذي يعكسه الكاتب ويعبر عنه شارع عاقل أو منطقي؟ أو هل يمتلك القدرة على تحليل القضايا وفق شروطها الموضوعية، فالمجموع أو العامة يكتفون من الأمر بثنائيته البسيطة الأولى (خير - شر) دون أن يرافق هذا تقصٍ لجميع الملابسات التي تتوارى خلف المشهد من ظروف وأسباب تاريخية واجتماعية وسياسية تتعلق بطبيعة الثقافة السائدة والمهيمنة في المجتمع.
شعار (الاستجابة لهموم المجموع ونبض الشارع) منزلق سهل قد يستطيبه البعض كونه يخلق جماهيرية مؤقتة للكاتب بحيث يصبح الكاتب شاعر المجموع أو بوقه الأكثر صخبا، ولكن على المدى البعيد من شأنه أن يخلق غطاء سميكا من الوعي المزيف القائم على العواطف والانفعالات والأماني.
تماما كما يذكر الكاتب الفرنسي غوستاف لوبون في كتابه الذي ألفه منذ أكثر من مائة عام (سيكولوجية الجماهير) (بأن السمة الأساسية للجمهور هي انصهار أفراده في روح واحدة وعاطفة مشتركة تقضي على التمايزات الشخصية، وتخفض من مستوى الملكات العقلية. فالجمهور يتحرك بشكل لا واع؛ ذلك أن الوعي فردي تحديداً، أما اللاوعي فهو جماعي) أيضا يذكر لوبون: إن (الإشاعة أقوى من الحقيقة. وإن الدعاية ذات أساس لا عقلاني.
يتمثل بالعقائد الإيمانية الجماعية. ولها أداة للعمل تتمثل بالتحريض من قريب أو بعيد.
أما التفكير النقدي وانعدام المشاعر الملتهبة فيشكلان عقبتين في وجه الانخراط والممارسة.
ويمكن تجاوز العقلانية عن طريق التحريض والدعاية.
ولهذا السبب ينبغي أن تستخدم الدعاية لغة الصور الموحية والمجازية، أو لغة الشعارات البسيطة والقاطعة التي تفرض نفسها فرضاً دون مناقشة) وقد سئل الإمام علي -رضي الله عنه- عن الغوغاء فأجاب بقوله: (الذين إذا اجتمعوا ضروا وإذا تفرقوا نفعوا). ومن هنا نصل إلى صعوبة أن يحول الكاتب الصحفي زاويته إلى معروض للشكاوى والتذمر، يلتقط نثارها من المجالس وأفواه العامة.
فكتابة الرأي في صحيفة تتداولها الأيدي وتقلبها العقول تتطلب أن نستمع كثيرا لنبض الشارع وهموم المجموع، ولكن لا لننقله بحذافيره وتفاصيله وغباره ووعثائه، ولكن لابد أن يفكك إلى مادته الأولية المتجاوزة للطرح الثنائي الهش المنغلق على جواب الخير (الشر أو الأسود) الأبيض فقط.