حينما أكتب ناقداً لبعض الممارسات المتخلفة أجد من يشد علي يدي، ويؤيد ما أقوله، ولكن في الغرف المظلمة، وحينما يتأكدون أن الأعين بعيدة عنهم، والآذان لا تسمع ما يقولون.
منطق (أنا وش دخلني) أو (أنا وش الله حادني) نابع من ثقافة اللامبالاة (السلبية) والقميئة التي هي في تقديري من أهم الأسباب التي جعلتنا في مضامير (التنمية البشرية) بمعناها الشامل وليس الاقتصادي فحسب -رغم مظاهر التنمية القشرية- في مستوى لا يتناسب مع طموحاتنا.
والذي يتطوع لتعليق الجرس أراه في ثقافتنا - للأسف- أندر من النادر. فثقافة (التضحية) من أجل الوطن، أو من أجل أن يبقى الإحساس بالوطن فاعلاً، ويتكرس وتمتد جذوره في أعماق الأرض والإنسان، هي التي نعاني من فقدانها إلى درجة أبقت في المقابل الانتماءات (التقليدية)، مثل الانتماء القبلي، أو الإقليمي، أو الطائفي، على حساب الانتماء الوطني.
وفي مجتمعاتنا كل من يواجه التخلف سيلقى - دائماً- من الممانعة، والرفض، واللاءات، ما ينهكه إذا لم يتسلح بالعزيمة والصبر والمثابرة والإصرار كما علمنا التاريخ؛ والذي علمنا -أيضاً- أن جميع من سعوا إلى مواجهة التخلف، واجهوا في البداية من المتكلسين، ومنتجات برك المياه الآسنة، الكثير؛ غير أن العبرة بالخواتيم دائماً، والخواتيم -كما يقول التاريخ أيضاً- لابد وأن تكون جيدة بالضرورة، فالتطور والتغير إلى الأفضل هو مسيرة الإنسانية جمعاء في العصر الحديث؛ فاليوم هو -كما نراه- أفضل من الأمس؛ وزمني أفضل من زمن أبي، وهكذا دواليك كما يقول الواقع الذي نعيشه.
معركتنا الحقيقية هي -في تقديري- مع التخلف (الثقافي). كل أنواع التخلف، وبالذات المادي، وتحديداً (الشكليات)، بالإمكان إصلاحها بقرار، أو بقانون، أو بموقف سياسي حازم؛ في حين يبقى التخلف الفكري والثقافي للإنسان، أي تغيير فكر الإنسان، ونمط قناعاته، ومعايير قبوله ورفضه، هو ما يحتاج تغييره إلى (زمن)، والزمن هنا هو (حتم)؛ أي لا يمكن أن نقفز عليه أو نتجاوزه بحال من الأحوال. غير أننا يجب أن نصر على التغيّر الإيجابي (التدريجي)، ذي المنحنى المتجه إلى الأعلى، حتى ولو كان (ببطء). قد تظهر أحياناً بعض التراجعات، فيبدو أن (التراجع) عن التنمية والتقدم هو الظاهر على السطح، كما حصل معنا في منتصف عقد الثمانينيات وطوال عقد التسعينيات من القرن المنصرم، عندما احتوتنا ثقافياً ظاهرة (الصحوة)، فتقهقرنا إلى الخلف (تنموياً)، إلا أن مثل هذه الظواهر تكون عادة ظواهر طارئة، لا تلبث إلا وتتلاشى، ويعود منحنى التغيّر الإيجابي إلى طبيعته.
من يقرأ تاريخنا منذ أن انتهت ملحمة الوحدة، أي منذ أن أعلنت وحدة البلاد على يد الأب المؤسس الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه، وما تلا ذلك من (ممانعات) لمسيرة التنمية، وحتى هذا العهد الميمون عهد الملك عبدالله، مروراً بالملك سعود، فالملك فيصل، فالملك خالد، فالملك فهد، يجد أن مسيرة التنمية إيجابية، رغم ما يتخللها بين الحين والآخر من محاولات لإيقاف هذه المسيرة، غير أن الذي يدعونا إلى التفاؤل أن هذه (العقبات)، أو بلغة أدق: (الممانعات)، في المحصلة النهائية لم تستطع أن توقف عجلة التنمية، وإن كانت قد أعاقت من سيرها كما يرى البعض.
نعم هناك كثير من الأخطاء؛ غير أن التجربة التاريخية لقنتنا درساً بليغاً يقول: إن الوحيد الذي لا يُخطئ هو ذلك الذي لا يعمل. الخطأ جزء لا يتجزأ من النجاح، والإنسان المتردد، الذي يفكر بالخطأ، ويجعله (هاجساً) لا يغيب عن عينيه دائماً، والذي لا تعرف قواميسه الإقدام، وكذلك شيء من (المغامرة) المحسوبة، سيبقى دائماً وأبداً على هامش النجاح. إلى اللقاء.