إن سياسة القوة تعني ضرورة استناد السياسة التي تنتهجها الأمة إلى قوة مسلحة قادرة على تنفيذ هذه السياسة، وإجراء الحوار السياسي مع الآخرين من موقع القوة، بالصورة التي تجعل من القوة العسكرية وسيلة ضاغطة تستطيع بفضلها الأمة توجيه سياستها بما يخدم أهدافها، وينعكس على هيبتها وذلك من خلال التلويح بالقوة العسكرية التي تدعم الساسة، وتجعل الخصم ينصاع لقبولها، مكتفيا بالحد
الأدنى من المساومة، حيث إن قوة الأمة بصورة عامة وقوتها العسكرية بشكل خاص تقف خلف الأمن الوطني والقومي لها، سواء في زمن السلم أو وقت الحرب، وهو أمر يتيح المجال للأمة لكي تضع سياستها، وتتحكم في تحديد مسارها ومدى استقرارها.
وتزداد قوة طرفي المعادلة في تناسب طردي حيث إنه كلما زادت فاعلية القوات المسلحة وقدرتها الردعية والاعتراف بها من قبل غيرها زادت سياستها قوة وتأثيراً، والتاريخ مشحون بالأمثلة التي أدت إلى فشل الأمة التي تعتمد على التهويش والمزايدة في تهديد الآخرين أو حل مشكلاتها معهم في غياب القوة الرادعة وما ينبني عليها من سياسات ناجعة، متجاهلة الحكمة القائلة: تكلم بلطف وأنت تحمل عصاً غليظة.
ومهما كان الاستخدام المشروع للقوات العسكرية يفرض اقتصار دورها على الجانب الدفاعي الذي يهدف إلى ردع الخصم وحماية أمن الأمة والذود عن كرامتها وحريتها، فإن الاستراتيجية الدفاعية ينبغي أن تنطلق من مفهوم هجومي يراعى من خلاله بناء هذه القوة وتسليحها وتدريبها وكيفية استخدامها، لضمان أمن التهديد، وتفادي تهديد الأمن.
وإذا كانت درجة الاستقرار السياسي بالنسبة للأمة ترتبط بمستوى التنمية فيها ورصيدها من أمن التهديد، وما يعزز ذلك من استراتيجية تتمثل فيها قدرتها على مواجهة التهديدات الخارجية وبالتحديد التهديد السياسي والعسكري، فإن مصداقية الردع التي تتوفر لهذه الأمة على الصعيد العسكري، بقدر ما تلعب الدور الأساسي في تحقيق هذا الأمر وتجسيده على أرض الواقع بقدر ما تشكل تهديداً مضاداً يجمع بين سياسة القوة وقوة السياسة.
وانطلاقا من هذا المفهوم فإن القوات العسكرية ينبغي اكتمال عناصرها والاهتمام بها من حيث البناء والتنظيم والتسليح والتدريب، وكلما من شأنه إنجاز مهامها والارتقاء بها كماً وكيفاً إلى المستوى الاحترافي المنشود الذي يتحقق معه مفهوم الردع التقليدي مع الأخذ بالأسباب نحو امتلاك الطاقة النووية السلمية وتسخيرها على النحو الذي يقود إلى الاستخدام العسكري، وما يعنيه ذلك من توسل الوسائل المباحة والبحث عن البدائل المتاحة في سبيل الحصول على الأسلحة ذات القدرة الردعية، نسبة لما يتوفر عند الخصم من أسلحة وما ينتج عنها من تهديد على أمن الأمة في الحاضر والمستقبل.
وعندما يكون الفارق النوعي بين أسلحة الطرفين المتضادين كبيراً فإن هذا العامل سوف يظل هو العامل الحاسم في رجحان كفة أمة على كفة أمة أخرى، مهما تعادلتا في الجانب الكمي، حيث إن الحرب وما يدور فيها من قتال تمثل أخطر أنواع النشاط الإنساني وأعلاها مرتبة في مجالات التزود بالعلوم والتكنولوجيا واحتراف المهنة والإبداع فيها، وكذلك أشدها تأثيراً في مصائر البشر، سواء اقتصر هذا القتال على المعارك المحلية المحدودة أم تجاوزها إلى مسارح الحرب الشاملة، ومن هنا فإن السياسة مهما كانت حكيمة يصعب عليها ردم الهوة في جانبها الكيفي مما يفرض على الأمة المقصرّة اللحاق بخصمها والتعادل معه في ميزان القوة ومفهوم الردع بالشكل الذي يساعد السياسة على تعزيز دور القيادة وحسم نتيجة الحرب باستخدام القوة العسكرية.
وبمجرد التحول من وضع السلم إلى حالة الحرب وقبل أن تدور رحى هذه الحرب وتشتعل نارها ويمتد لهب أوارها فإن الطرف الذي يشعلها يحاول دائما أن يصوغ سياسته بما يوافق أهدافه على أن تتضمن هذه السياسة مختلف المشكلات المحتملة، وما يدور في فلكها من تأثيرات متوقعة، مع الأخذ في الاعتبار ما يلزم الإبقاء عليه من علاقات طيبة مع الخصم، وما هي التكاليف المقبولة والإجراءات المطلوبة حيال التبعات المترتبة، كما يتعين على هذا الطرف إيجاد الحلول للمعضلات ذات الصبغة العالمية قبل ان تتفاقم إذ إن أغلب هذه المعضلات تبدأ صغيرة نسبياً ثم تتفاقم مع استمرار الحرب ومرور الزمن.
وكل هذه الاعتبارات والحيثيات ذات الطابع السياسي تحركها القوة العسكرية صعودا ونزولا مؤثرة فيها ومتأثرة بها، والسياسة تلعب الدور نفسه من حيث تحريك القوة وتضخيم دورها أو تحجيمه الأمر الذي يجعل البادئ بالحرب غالبا ما يجنح إلى استخدام القوة لتحقيق أهدافها، بينما يسعى الضحية إلى مقاومته بكل الطرق الممكنة، متقياً ما يحتمل ان يتعرض له من قتل وتدمير، خاصة وان كلاً من الطرفين منذ أن تندلع الحرب يحاول جاهداً أن يفرض إرادته على خصمه من منطلق ممارسة حق الدفاع عن النفس بالنسبة للمعتدى عليه من جانب، واختلاق المبررات والذرائع وتغليف الهدف بها فيما يختص بالمعتدي من جانب آخر، وبالتالي يحاول كل من جهته فرض المشيئة والفوز بالنصر تحت غطاء المبرر الذي يدعيه، بوصف الدفاع الذاتي أقدم الشرائع الإنسانية، والدفاع أحياناً يكون من خلال الهجوم أو نتيجة مترتبة عليه، وهذه الملحمة الدامية امتداد للسياسة ودافع يدفعها تجاه الهدف، كما ان السياسة والدبلوماسية المحركة لها تغذيها، وكل منها تخدم الأخرى، تبعاً لغاية طرفي الصراع وعوامل القوة والضعف بالنسبة لكل منهما.
والأمة إذا ما كانت قوية عسكريا إلى الدرجة التي تكون فيها متفوقة على من حولها، فإنها قد تميل تلقائيا إلى التهديد بالقوة عندما يطرأ أي نزاع يتسبب فيه غيرها، متخذة من عرض عضلاتها والتلويح بقوتها سبيلا إلى تخويف الخصم وردعه بالصيغة التي تجعله يتراجع عن موقفه ويقبل الحل السياسي الذي ينهي النزاع ويحول دون تصعيده، والقوي مهما غلّب قوة السياسة على سياسة القوة فإنه لابد أن يلوح بالثانية توطئة لقبول الأولى.
وعلى الجانب المقابل فإن قوة السياسة تتضح في أسلوب إدارة الأمة للأزمات، وتعاملها مع التهديدات وما ينطوي عليه هذا النهج من الحكمة والعقلانية عند التصدي للتحديات وهي لا تزال في مهدها، ومواجهتها قبل استفحالها، والردع السياسي المؤثر يعوض نسبيا عن الردع العسكري الفاتر عن طريق إحلال قوة السياسة محل سياسة القوة، وانعكاس فاعلية الأولى وإيجابياتها على خمول الثانية وسلبيتها، بما يؤدي إلى التكامل في إنجاز المهام وتبادل الأدوار بين الجهود العقلية والعضلية.
والسياسة رغم ما لها من طابع عام وسمة ذات شمولية إلا أن قوتها الداعمة للجهد العسكري تتصل بصفات متعددة، وينبثق منها ممارسات متجددة قوامها الدهاء والحكمة، وظاهرها الكياسة والمداراة، وباطنها المهارة التي تقوم على التنبؤ والبراعة وما يمثله ذلك من تجسيد الواقع الممارس وتكريسه لخدمة تحويل هذه الملكة إلى حقيقة ماثلة، والربط بين النظرية والتطبيق والدراسة والممارسة في ميدان التنفيذ.
والتوقع والإبداع هما أساس القيادة العسكرية ومحك اختبار القائد وهل هو مطبوع أم مدع؟ وهاتان الملكتان تندرجان في إطارها الحكمة والدهاء، وتغلفهما الكياسة والمداراة التي يشكل كل منها لزومية من لزوميات السياسة والدبلوماسية المحركة لها، وكل انتصار عسكري تحققه الأمة يقف خلفه نضج سياسي بالإضافة إلى ما تجلبه السياسة للأمة من نجاحات وما تنجزه لها من إنجازات تؤطرها بالكياسة تارة، وتضعها في قالب المدارة تارة ثانية.
وإقامة الأمة لعلاقات ودية مع الآخرين وكسب صداقة الجميع يدل على ما تتمتع به هذه الأمة من قوة السياسة، وما يتوفر لها من سلوك ناضج يجعلها تتحلى بالحكمة وتتذرع بالصبر عندما تمر بأي موقف يمكن تجاوزه والسيطرة عليه مع الوقت، كما أن ذلك يتطلب منها أن تنأى بنفسها عن كل ما يعكر أمنها أو يهدد أمن غيرها، مستبدلة اللجوء إلى القوة لحل مشكلاتها مع غيرها بالطرق الدبلوماسية وقوة السياسة شريطة أن تكون قوة السياسة قائمة على سياسة القوة وليست بديلا لها، وأن يتم تطوير مصادرها والعلاقات المغذية لها على النحو الذي يزيد في عدد الأصدقاء ويقلل من الأعداء، وما لهذا الأمر من مردود ايجابي على حسن الجوار واستقرار الأوضاع على الصعيد الخارجي والمستوى الداخلي.
ومهما كان لقوة السياسة من قيمة فإنها لا تغني عن سياسة القوة حيث إن الأولى في غياب الثانية تعتبر فائدتها محدودة وقيمتها وقتية، والأمة التي تعوّل عليها سرعان ما يسقط سهمها، ويأفل نجمها، ويصبح مصيرها في مهب الريح، والسياسة في معزل عن القوة العسكرية التي توفر لها الدعم والحماية يصعب الاعتماد عليها بالغاً ما بلغت من حكمة لأن الزمن كفيل بانتهاء مفعولها واختفاء مدلولها، وكل ما لا يتطور يندثر.
والاستفادة من الحلفاء يعد مطلباً من المطالب التي تُعنى بها السياسة، وتظهر براعة هذه السياسة وقوة تأثيرها من خلال الممارسة الفعلية لهذا الدور إذ إن سيطرة المصالح والمنافع على العلاقة بين الحلفاء تجعل من هذه العلاقة محكّ وميدان اختبار لقياس فاعلية الحليف ومدى الاعتماد عليه ومصداقيته وهذا موضوع المقالة التالية.