لا يزال نظام الكفالة الذي أوجدته ظروف اقتصادية وإدارية معينة عند بداية الطفرة الاقتصادية في بلادنا في السبعينيات الميلادية من القرن الماضي يثير جدلاً كبيراً في البلدان التي نستقدم منها العمالة الوافدة، والسبب الرئيس لهذه الضجة هو سوء استخدام نظام الكفالة من قبل فئة من الكفلاء وأصحاب الأعمال إلى حد يصل إلى ظلم العمالة والتعامل معهم معاملة القوي للضعيف، والقوي إذا ضعف عنده الحس الإنساني والخوف من الله تعالى وأمن المساءلة قد يأتي بعجائب الظلم والبطر وأكل الحقوق في ظل إجراءات إدارية تتسم بالبيروقراطية والروتين وبطء الإجراءات وضبابية الأنظمة.. لهذا يتعرض بعض من الكفلاء إلى ضياع حقوقهم، كما يتعرض كثير من العمال إلى معاملة سيئة، وظروف قاسية.
أعيد التذكير بهذه الحقائق وأنا أمام مثال حي، وحالة عرفتها عن كثب جرت أحداثها هذه الأيام، وهي حالة طبيبة من دولة عربية عملت لمدة سبع سنوات في أحد المستوصفات الخاصة، وفي السنة الأخيرة أدخِلت والدتها إلى المستشفى في بلدها وطال مكوثها قي قسم العناية المركزة، فأخذت إجازتها السنوية وأمضتها معها، ثم عادت لكن والدتها طال بقاؤها في المستشفى ولم تخرج منه، فطلبت من كفيلها إعطاءها إجازة طارئة لتكون قرب والدتها المسنة التي توحي حالتها أنها في مرض الموت، فما كان من الكفيل إلا أن ماطل وسوّف بحجة أنه يبحث عن بديل لها. ولما طال التسويف طلبت منه السماح لها بالسفر دون تأخير لظروف طارئة، فأجابها بالرفض بحجة أنها إن سافرت فلن ترجع، فما كان منها إلا أن تقدمت للجهة المسؤولة مستنجدة بها، لكن الكفيل ما إن علم بشكواها حتى سارع إلى تخييرها بين التنازل عن كامل حقوقها المالية والعمالية خلال سنوات عملها، أو كف يدها عن العمل وإبقائها في السكن لحين انتهاء النظر في القضية، فاضطرت للبقاء في السكن بمفردها لوجود زوجها في بلد يبعد عنها أكثر من ألف كيل، وأولادها الصغار في بلدها.. أما الجهة التي تقدمت لها فقد أحالت المعاملة إلى جهة ثانية، والثانية إلى جهة ثالثة، وبين كل إحالة وإحالة العديد من المراجعات والمتابعات والأرقام الصادرة والأرقام الواردة، فما كان من هذه المكفولة المغلوبة على أمرها إلا أن اتصلت بسفارة بلادها، فكان الجواب دبلوماسياً لا عملياً، وطيبت السفارة خاطرها بكلام رقيق مفاده أن السفارة مشغولة بآلاف القضايا المماثلة وعشرات القضايا الأكبر حجماً وأكثر أهمية من قضيتها، وأن عليها أن تواصل دعواها في الجهات ذات العلاقة.. اتصلت بالجهات الإعلامية فوجدت أن الجهات الإعلامية لا تحبذ الدخول في هذه القضايا بسبب القيود التنظيمية والخوف من التورط في قضايا قانونية مع الكفيل، ولأن المواعيد لدى بعض الجهات التي تقدمت لها مثل مكتب العمل والمحكمة وغيرها لا تقل عن شهر، والشهر قابل للتمديد لمرتين أو ثلاث في حالة غياب المدعى عليه أو غياب الموظف الذي أحيلت عليه القضية، وفي حالة الحضور فقد تمدد الجلسات إلى مواعيد أخرى بحجة طلب المزيد من الإثباتات أو الطعون، فإن الدعوى قد تمتد إلى شهور وربما سنوات، وبعد أن ذاقت هذه المكفولة مرارة الإيقاف عن العمل والبقاء في السكن وصدمت بطول الإجراءات وعدم مبالاة الموظفين بظروفها، وجدت نفسها مضطرة لأن توقع أمام الموظف المسؤول في مكتب العمل بأنها قد استلمت جميع حقوقها وتعهدت بعدم المطالبة أو رفع الدعاوى مستقبلاً على مكفولها، رغم أنها وبعلم الموظف المسؤول لم تستلم ريالاً واحداً!
قد لا يلام الموظف لأنه ينظر إلى ما تم على أنه اتفاق صلح يتنازل به المكفول عن حقوقه مقابل السماح له بالسفر بدلاً من الانتظار ومتابعة القضية في محاكم العمل من الابتدائية إلى النهائية، ثم المحاكم الشرعية من الأولية إلى التمييز، وما بين ذلك من الاعتراضات والاستئنافات.. لكن التنازل عن الحقوق بهذه الطريقة في واقعة ليس إلا ظلماً وأكلاً لأموال الناس بالباطل، واستبداداً يمارسه القوي على الضعيف.
كم في بلادنا من أمثال هذا الكفيل الذي يشوه سمعة المملكة في الخارج، ويسيء إلى صورة السعوديين التي لا تحتاج الآن إلى المزيد من الإساءة والتشويه!