كانت الدول التي تعاقبت على الحكم في العالم الإسلامي تشهد فترات ازدهار وقوة، ثم فترات ضعف وانحطاط تنتهي بانتهاء دورة الحضارة وانهيار أساس الدولة التي تخلفها مباشرة دولة أخرى تقوم على أنقاضها.
وقد حدث هذا للدولة الأموية في المشرق والأندلس، ووقع مثله للدولة العباسية وتكرر المشهد تباعاً مع العبيديين والمرابطين والموحدين، ثم بروز الدويلات المرينية والحفصية والزيانية، قبل أن تكتسح الدولة العثمانية العالم الإسلامي مرة ثانية وتجدد شيئاً من شبابه.
كانت الدول الإسلامية في دوراتها المتأرجحة بين القوة والضعف تلتزم بالأحكام الإسلامية ظاهراً، رغم الفساد الذي كان ينخرها من الداخل، وانغماس بعضها في الترف واللهو، وكانت الدول التي تقوم على أنقاضها تعتلي سدة الحكم بعد ثورات عنيفة تحكمها الدعوة إلى إقامة شرائع الإسلام وتحقيق العدالة، فيكون الانحراف عن طريق الإسلام الحجة التي تلجأ إليها كل الجماعات التي تطمح إلى إقامة دولة على أنقاض من سبقها. ولكن رغم هذا، لم يحدث وأن أعلنت دولة من دول العالم الإسلامي - في تاريخ الأمة الطويل والحافل - تنكرها لمبادئ الشريعة أو استخفافها بها علنا، أو استبدالها التشريعات الإسلامية النابعة من صميم العدل والحكمة والرحمة بتشريعات تستوردها من الحضارات الأخرى وتجعلها بديلاً عن الشريعة التي حكمت الناس باسمها، إلا أن ذلك وحده لم يضمن لها البقاء والسيطرة.
ولهذا فإن بعض الدول الإسلامية في عصرنا الحاضر ما أصابها من الضعف والتخاذل إلا بسبب تنكرها لمبادئ دينها واستبدالها تشريعاتها الإلهية بتشريعات وضعية قاصرة، تفتح الباب واسعاً أمام الفوضى والفتن والاضطرابات التي تعصف باستقرار المجتمعات سياسياً واقتصادياً، وحتى ثقافياً.
إن البحث عن البدائل الوضعية الأخرى كالديمقراطية - وهو وتر يُحسن العلمانيون العزف عليه جيداً - لن يساهم في لحاق الدول الإسلامية بركب المجتمعات الغربية، لأن نهضة الأمم لا تحتاج لشعارات براقة لا تُسمن ولا تُغني من جوع، ولأن مفهوم (الديمقراطية) نفسه - بعيداً عن أسسه الغربية النظرية - تُخضعه كل سلطة سياسية لمفهومها الخاص المتماشي مع مصالحها، وإن كان في ذلك نفسه نسخ وفسخ لمفهوم هذا المذهب من أساسه.
ولن يكون الحل إلا بالرجوع للقيم نفسها التي تأسست الدولة عليها، أعني القيم الإسلامية النابعة من التشريعات الإلهية التي ضمنت سعادتي الدنيا والآخرة.
الإسلام يبقى السند الحقيقي والوحيد للدول والمجتمعات الإسلامية، لأنه في ظله تتحقق العدالة البشرية وفق أسمى معانيها، وتتحقق المصالح الاقتصادية، ويحدث الاستقرار السياسي في ظل الشورى المنتخبة، لأن عمليات النقد التي تطال السلطة والأنظمة لن تتحول إلى (انقلاب عسكري) و(خروج) على الحاكم تُزهق فيه الأنفس وتُسفك الدماء، وتستحيل الحياة معه من الأمن إلى الخراب والدمار.
والمال لن يُصبح دولة في يد فئة محدودة دون مراعاة حق الفقير والمسكين والمحتاج، وتتحقق تبعاً لذلك حصانة الأمة الفكرية والثقافية التي تمكنها من انتقاء أحسن البرامج التعليمية والفكرية المواكبة لأحدث الاكتشافات العلمية، دون الذوبان في حضارات أصحابها ودون الوقوع فريسة سهلة للغزو الفكري الذي نرى يوماً بعد يوم كيف يُفقد الأمة هويتها وخصوصيتها التي تُعتبر أساس قوتها وازدهارها وسبيل عزها الوحيد.
****
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب 8300 ثم أرسلها إلى الكود 82244