مفهوم السياسة لدى الغرب أنها (فن الممكن)، لذا تخضع الأخلاق والمعاهدات والصداقات في السياسة للمصالح العليا التي تحددها الدول الإمبريالية لنفسها، وهذا ما يتوافق مع الفكر الميكيافلي السياسي، من هنا يمكن أن نفهم تضارب المواقف السياسية لدى كل من روسيا والولايات المتحدة الأمريكية على خلفية الحرب الروسية الجورجية حول إقليم أوسيتا الجنوبية،
فالاولى سحقت جمهورية الشيشان بما يشبه المحرقة في الحرب الثانية التي اندلعت بينهما عام 1999م، رافضة استقلالها بحجة أنها ضمن أراضيها وإن كانت تاريخياً لا تنتمي لروسيا، كما رفضت استقلال إقليم كوسوفا عن صربيا الذي أعلن في شهر فبراير عام 2008م، لكنها في المقابل تؤيد استقلال الجمهوريات الواقعة داخل الأراضي الجورجية وتدعمها بشكل واضح مثل (أبخاريا) في الشمال الغربي لجورجيا، و(أوسيتا الجنوبية) الواقعة في وسط شمال جورجيا، على النقيض يأتي موقف الإدارة الأمريكية التي ترفض هذا الاستقلال وتدعم جورجيا في السيطرة على هذه الجمهوريات، لكن هذه الإدارة في موقف معاكس عملت وبفعالية لاستقلال كوسوفا، كما دعمت تيمور الشرقية حتى اقتطعتها من إندونيسيا بمعاونة أستراليا والأمم المتحدة عام 2002م ناهيك عن دورها في السودان سواء في الجنوب الطامح للاستقلال أو في دارفور المتمرد غرباً.
فما الذي يجري في بلاد القوقاز حتى صار الحال هناك لغزاً يدعو للحيرة بسبب تسارع الأحداث وسخونة المواجهات؟ بمعنى آخر للسؤال: ما هي خلفيات الحرب (الروسية - الجورجية) التي تداخلت فيها خيوط اللعبة السياسية فشدت بارود الأزمة حتى ثارت الحرب؟ للإجابة التقريبية وحلّ اللغز، لابد من رسم لوحة الواقع القوقازي التي تتكون من أربعة أضلاع رئيسة، معرفة الأهمية الاستراتيجية لمنطقة القوقاز.. وارتباط روسيا بهذه المنطقة الحيوية.. وتسليط الضوء على تاريخ العلاقات الروسية الجورجية.. وانعكاس التعاون الجورجي الغربي وبالذات الأمريكي على هذه العلاقات التاريخية.
القوقاز أو (القفقاس) منطقة جبلية واسعة تقع بين بحر قزوين (شرقاً) والبحر الأسود (غرباً) حيث تقسمها سلسلتا جبال القوقاز الكبرى في الشمال أعلاها قمة جبل (البروز) والقوقاز الصغرى في الجنوب، وتتشارك في هذه المنطقة الحيوية من العالم جمهوريات: (روسيا وجورجيا وأرمينيا وأذربيجان) وفي محيط هذه الجمهوريات تنضوي مجموعة جمهوريات تبحث عن الاستقلال أغلبها إسلامية مثل: (داغستان والشيشان وأنجوشيتيا وأبخازيا وأوسيتا والأديغة وأجاوريا وغيرها)، يتشكل العرق القوقازي الذي يسمى (العرق الأبيض) من عدة شعوب تنقسم إلى شعوب شمال القوقاز وهم: الشيشان والداغ، والأبخاز، والأديغة، وشعوب جنوب القوقاز وهم: الكرج (شعب جورجيا)، والأرمن (شعب أرمينيا)، والأوسيت (شعب أوستيا الجنوبية والشمالية)، تكمن أهمية القوقاز في كونها الرابط بين قارتي آسيا وأوروبا وبنفس الوقت حاجزا بينهما بحكم جبالها، لذا كانت معبرا أرضيا لموجات بشرية بين القارات الثلاث (آسيا وأوروبا وإفريقيا)، وهي أكثر مناطق العالم تنوعاً أثنينا ولغوياً، ومدار صراعات وحروب بين إمبراطوريات تاريخية عظيمة هي: (العثمانية والروسية والفارسية)، كما أنها منطقة مفتوحة لإمدادات النفط والغاز من بحر قزوين لأوروبا، فضلا عن أن التحكم بها يعني السيطرة على الحدود الغربية لروسيا، من هنا كان التحرك العسكري الروسي ضد جورجيا في أوسيتيا الجنوبية مفهوماً ومتوقعاً لمن يتمعن في سياسة (الخط الأحمر) التي وضعها الروس في ما يخص أمنهم القومي جهة الجنوب القوقازي، فأيام الاتحاد السوفيتي كان جنوب القوقاز بجمهورياته الإسلامية داخل البيت الروسي وبعيداً عن عالمه الإسلامي وبالذات الحدود الإيرانية والتركية، بحكم وجود جمهوريات (جورجيا وأرمينيا وأذربيجان) التي كانت تمثل الحاجز المانع للتواصل الإسلامي، أما اليوم فقد صار الجنوب القوقازي (الإسلامي) هو الحاجز لروسيا بحكم استقلال جورجيا، وأرمينيا، وأذربيجان، والسبيل للتوسع الروسي البطيء لاعتراض التوغل الأمريكي في آسيا الوسطى، وهذا يفسر الدعم الكبير الذي تبديه روسيا لحماية واستقلال جمهوريتي أبخازيا وأوسيتا الجنوبية في أراضي جورجيا، رغم أنها في المقابل ترفض استقلال جمهورية الشيشان بحجة أنها ضمن الأراضي الروسية ولأهميتها النفطية، وداغستان لأنها منفذها البحري على بحر قزوين، كما أن سيطرة روسيا على الجنوب القوقازي يمنحها نفوذاً في الصراع الدولي بالنسبة لكل القضايا الدولية المرتبطة بإيران والمنطقة العربية وآسيا الوسطى، ناهيك عن قربها من التحركات الأمريكية الأوروبية بما يتعلق ببحر قزوين والاستثمارات النفطية فيه.
لذلك كانت روسيا صارمة وحازمة في ردة فعلها العسكري حيال الوجود العسكري الجورجي في جمهورية أوستيا الجنوبية، متجاوزة بذلك كل المراحل الايجابية في تاريخ العلاقات الروسية الجورجية التي بدأت بشكل فعلي عندما استنجدت جورجيا (المسيحية) بروسيا القيصرية، لمساعدتها في نزاعها مع جارتيها المسلمتين (إيران الصفوية وتركيا العثمانية)، فاستجابت الأخيرة لأن ذلك يحقق طموحها في التوجه جنوباً لتتطور هذه العلاقة خلال المرحلة السوفيتية (الحكم الشيوعي البلشفي)، بانضمام جورجيا لهذا الاتحاد عام 1921م، لكن مقدمة التحولات في هذه العلاقات كانت عام 1989م بعد وقوع التصادم بين الجيش السوفيتي والمتظاهرين الجورجيين (الكرج)، التي كانت تمهيداً لاستقلال جورجيا عام 1991م، لتبدأ بعدها في اتخاذ منحى سياسي مغاير ومعارض للمصالح الروسية في القوقاز، فقد ألغت الحكم الذاتي عن جمهوريات أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا وأوجاريا وفرضت اللغة الجورجية، فكان ردة فعل هذه الجمهوريات المطالبة والعمل للاستقلال وهذا ما كان سبباً في الحرب السابقة في (أبخازيا) عام 1993م، والحالية في (أوسيتيا الجنوبية) خاصة أن جورجيا اتجهت إلى الغرب بشقيه (الأمريكي والأوروبي) معلنة انضمامها إلى حلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي الأمر الذي عارضتها روسيا بشدة وما زالت، بينما تدعمه الولايات المتحدة لأنه يؤدي إلى تقويض نفوذ روسيا في القوقاز حتى تضييق الخناق عليها، مثلما قضت على نفوذها في البلقان، ويفتح لها الطريق للسيطرة على الموارد الطبيعية وبالذات نفط آسيا الوسطى، إذاً ما يجري في القوقاز هي حرب إقليمية تخفي وراءها نذر المواجهة الكبرى بين روسيا وأمريكا، فهل تنجح روسيا التي فردت عضلاتها باستدراج جورجيا لحرب غير متكافئة، مؤكدة أنها سيدة القوقاز، أن تنجح الولايات المتحدة بتقويض النفوذ الروسي عندما تحرك أقليات شمال القوقاز من شيشان وأنغوش وغيرهم، الأزمة في بدايتها!
kanaan999@hotmail.com