أبو عبدالله بدأ حياته العملية حينما تخرج من المرحلة الابتدائية قبل أكثر من نصف قرن وتم تعينه مباشرةً مدرساً للمرحلة الابتدائية، تخيلوا شاباً يافعاً يبدأ حياته العملية وهو في سن صغيرة...
ويقوم بتدريس من هم في الغالب في عمره أو أصغر قليلاً، وتدرج وظيفياً حتى أصبح مديراً للمدرسة ثم انتقل للعمل في إحدى المصالح الحكومية ولم يحظ بالطبع كغيره ممن تركوا تعليمهم، لم يحظ بفرص الترقية كأقرانه ولكنه وبعزمه وإصراره وحرصه على توفير حياة كريمة لأبنائه، كافح من أجل أن يحصل على مرتبة حكومية جيدة بل ممتازة في ظل عدم توفر شهادة جامعية معه.
المهم أنه قضى أكثر من أربعين عاماً في خدمة تلك المصلحة وترقى فيها حتى رئاستها ومن ثم تم التجديد له لأكثر من ست سنوات، ومن ثم طلب عدم التجديد له ليس لسوء صحته بل لأنه أدرك أنه بدأ يكرر ذاته وهناك من هم أحق منه بشغل المنصب من الشباب المتعلم. وهو من القلة القليلة الذين لم يحرص على توريث أبنائه منصبه أو حتى إلحاقهم بوظائف في المصلحة التي عمل بها رغم تربعه على رأسها.
وجد نفسه في المنزل وهو من أفنى حياته في خدمة المصلحة تلك، ووجد الفرق في قضاء الوقت فبعد أن كان ذا نفوذ وفي موقع اتخاذ قرار، أصبح في منزلة رجل عادي يقضي معظم وقته في قراءة الكتب والصلاة وينتظر من يزوره ليتحدث معه عن تجاربه في العمل وفي الحياة بشكل عام.
لم يدر بخلده يوماً أن يذهب إلى أصدقائه لقناعته أنهم ما زالوا ينفخون دخان نرجيلتهم، ويرمون بورق اللعب على الأرض، تلك اللعبة التي أصبحت الصديق المؤنس للمتقاعد فيجلس ومن حوله تعبق رائحة الشاي والنعناع والقهوة، وربما صوت مطربي أيام زمان يعود بهم سنين للوراء لتحن إلى صوت السيدة أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب وفريد الأطرش.
حديثهم، حركاتهم، قهقهاتهم ووجوههم كلها تروي قصصاً من واقع عاشه أصحابه، واقع كان لابد فيه الحلو والمر. يقولون البارحة كنا شبابا واليوم غدونا متقاعدين. يجلسون مع أقرانهم يشكون هموم الحياة ومآسيها، ومشاكل العائلة والأولاد والبنات والأحفاد.
التقاعد ليس تقاعد من الحياة كما يصفه البعض أو يعتقد. لكن هو نقلة إلى نمط حياة جديدة وهي حياة ما بعد التقاعد. الوضع المادي للمتقاعد في أغلب البلدان العربية لا يسمح له بالتفكير بالسياحة. أو حتى بإقامة أعمال حرة فجل من تقاعد لا تكاد مرتباتهم تكفيهم لإعانة أسرهم وخصوصاً الأولاد ممن لم يجد عملاً وأصبح عائلاً على والده المتقاعد.
يطالب الكثيرون بأن يبرمج الشخص المتقاعد حياته وفقاً لظروفه الجديدة فيتفرغ لعمل أشياء كان مقصرا بحق نفسه بها كالرياضة والقراءة.
في حين يرى آخرون أن رعاية المتقاعدين تقع على عاتق الدولة بحيث تولي المتقاعدين اهتماماً أكبر وتشعرهم بجليل خدماتهم وأنهم يستحقون الكثير ولا ضير من مكافآت تشجيعية من جانب مؤسساتهم التي عملوا بها لتضخ دماء التفاؤل في عروقهم.
يبرمج العاملون بالغرب حياتهم بحيث يبتهجون بقرب سن التقاعد لإعادة ترتيب أوقاتهم بحيث يستمتعون بما لم يستطيعوا أن يقوموا به أثناء عملهم، فبمجرد زف خبر تقاعد أحدهم يهرع إلا أقرب مكتب سياحي ليبرمج رحلة سياحية وزوجته للاستمتاع بالراحة من خلال السفر والاستجمام، أما لدينا فالأمر مختلف. القيم العمودية التي يعيشها مجتمعنا لا تترك مجالاً أمام المتقاعد أن يذهب حتى بفكره بعيداً عن أسرته وواجبات عائلته وحضور مناسباتهم ورعاية أبناء أبنائه.
السؤال لماذا لا يتم إقامة مراكز استجمام للمتقاعدين في أحياء الرياض بدلاً من إقامة الحدائق العامة التي لا يزورها في الغالب إلا المقيمون من وسط وجنوب الرياض ومن ساكني الشقق حيث يجدون بها متنفساً وملعباً لأبنائهم حتى أصبحت مرتعاً لهم ولشواياتهم التي ضجر سكان الحي حول الحدائق من رائحة اللحم المشوي المتصاعد منها. لماذا لم يتم التفكير بالاستثمار بعقول هؤلاء ممن تقاعدوا في تشكيل مجالس للأحياء وتحويل تلك الحدائق أو حتى على الأقل ركن منها إلى مركز يتم لقاؤهم فيه وتبادل الأحاديث والتشاور فيما يخدم مصالح الحي.
لماذا لا تشجع الدولة هكذا مشاريع بدلاً من إيجاد انطباع قاتل لدى المتقاعد أنهم أخذوه لحماً وتركوه عظماً دون رعاية ودون حتى اهتمام يعيد له نضارته التي فقدها بمجرد ترجله من العمل الحكومي.
عادة يشعر المتقاعد إنه مهمش ومستقصى من الخريطة العملية وحتى الاجتماعية بل والسياسية أيضاً، حتى لو لم يكن كذلك حقيقة إلا أنه شعور قاتل لا يعيشه سوى من جربه، ويكرر بأن مشكلاته المستعصية هي بالنسبة لغيره قضايا تافهة لا تستحق قضاء وقت للتفكير بها فيجدون أنفسهم بين مطرقة واقع وحيد مؤلم، وصراع اجتماعي لا يرحم وسندان ظروف أبناء وبنات لا توليهم الاهتمام المطلوب فيبحثون عن البدائل التي ربما لا تساعدهم فيها صحتهم فهم من أنهك العمل الحكومي قواهم.
الحلول كثيرة والبدائل متوفرة لكن يصعب تحقيقها دون تدخل من ذوي السلطة المعنية بالأمر لأنهم إن تقاعدوا عاشوا بطريقة مختلفة عن غيرهم من المتقاعدين وبالتالي لا يعيش معاناتهم ولا ينظر حتى لهم لأنه في الغالب سيكون قادراً على السفر خارج المملكة وقضاء معظم أشهر السنة يجول العالم بما وهبه الله من مال وراتب تقاعدي ممتاز. إن أردنا أن نحل مشكلة هؤلاء الذين يمثلون آباءنا وإخواننا الكبار الذين ما بخلوا بوقتهم وجهدهم في خدمة بلدهم أن نفكر جيداً في حلول وبدائل لإيجاد بيئة يتم من خلالها تقضية وقتهم فيما يعود عليهم وعلى مجتمعهم بالنفع ويكفي إشعارهم بأنهم مازالوا موجودين ودورهم مهم في مجتمعاتهم مهما صغرت.
لماذا لا يكون هناك مجالس أو أندية يتولى مناصب قيادتها هؤلاء ويتم لجوء ساكني الحي لهم ويقوموا بدور العمد وغيرها من الأدوار كحل مشكلات الحي والتوفيق بين ساكنيه وإقامة الاحتفالات وإيجاد الألفة والمحبة بين سكان الحي وإحياء بعض من تراثنا الذي بدأ بالاندثار.
والله من وراء القصد.
dr.aobaid@gmail.com