والجمال حين نسلم لمحققاته عند كل رؤية نقدية، يكون في القول كامناً في اللغة من حيث الجرس والإيقاع، وفي التخيل من حيث الصورة والتصور، ويكون في المعاني من حيث العمق والشرف، وأقوى محدداته الذائقة والانطباع،
المتشكلان من كثرة المساس، فما من ذوق إلا هو ناتج إلْفٍ وسماع واتفاق. والعقل الجمعي قد يسلم لمؤشر فكري أو صوتي أو بصري لا يكون قد سلم له عقل جمعي آخر يفصله عما سواه من عقول زمان أو مكان، وليس أدل على ذلك من استمرار التحول في الشكل والمضمون بطرائق معقولة للعالِمِين.
والناس في الجملة أبناء حاضرهم ومن تبنى للتاريخ فقد اعتزل حاضره، ومن ثم فلن نفرض على أنفسنا من الفنيات والضوابط ما فرضه الأوائل على أنفسهم، وليس من حقنا ممارسة القطيعة والانقطاع دون استجابة عفوية لهوى الأنفس. إن القبول والرفض لمؤشرات الجمال تقوم عندما يعي الإنسان مرحلته ومتطلباتها، وإذا كانت حاجتنا الحسية تتبدل يوماً بعد يوم فإن حاجتنا المعنوية أولى بهذا التبدل، والذين يرتهنون أنفسهم لما توصل إليه الأوائل ولا يبتدرون التغيير والتبديل لمواكبة العصر، يكونون في النهاية كهفيين، يعتزلون القوم، ويعتزلهم القوم.
ولعل أوسع من درس جماليات القصيدة المعاصرة صديقنا الدكتور (طه وادي) الأستاذ بكلية آداب القاهرة في كتاب يحمل ذات الاسم، إذ تقصى الجماليات بدراسة تطبيقية استوعبت عشرين فصلاً خص الشعر الخليجي بثلاثة فصول من الفصل السابع عشر، وخص الشعر العربي في المملكة العربية السعودية في فصلين هما الثامن عشر والتاسع عشر، تناول فيهما كتاب (شعراء من أرض عبقر). وهذا الكتاب مجموعة دراسات تطبيقية للشاعر الناقد الأستاذ الدكتور (محمد عيد الخطراوي). فيما تناول في الفصل التاسع عشر الشعر القصصي في ديوان (محمد حسن فقي)، وهو في الفصل السابع عشر قد تحدث عن شاعرية المكان، بحيث خص الجزيرة العربية بدراسة رصدية خلص فيها إلى أنها جزيرة شاعرة، لأنه مهد الشعر ومهبط الوحي. والدراسة بجملتها إشارات خاطفة لا تتسم بالعمق ولا بالتفكيك، ولكنها تضع نظر القارئ على مكامن الجمال من خلال الشواهد التي انتقاها بإتقان.
وحديثه عن الشاعر المكثر والمخضرم (محمد حسن فقي) اقتصر على ملمح شكلي، يتمثل بالشعر القصصي. ولقد كانت لي إلمامات متعددة حول هذا الاتجاه الجديد في الشعر، حيث عقدت فصلاً في دراستي للدكتوراه عن الفنون المستحدثة في الشعر السعودي المعاصر، تناولت فيها الشعر المسرحي والقصصي والملحمي بمفهومه المعاصر. وللشعر السعودي قدم صدق في هذه المهايع، وإن كان رواد هذا الاتجاه ينظرون إلى رواد المسرح الشعري في مصر، وبخاصة (أحمد شوقي) في مسرحياته الشعرية، والحركة الداخلية والوحدة الفنية المنطوية على عدة وحدات لغوية وفنية وموضوعية وعضوية وشعورية من المستجدات التي أكسبت القصيدة مزيداً من الجمال والتألق، وهي مستجدات اختلف حولها النقاد.
ودراسة (طه وادي) قد لا تستجيب لمتطلبات الدارس للجماليات بمفهومها الأعم، وإن تناول الجانب التنظيري بشيء من الإيجاز، وهو في دراسته التطبيقية التي أتت على عدد من الشعراء الشباب الأكثر مغامرة من أمثال (محمد عفيفي مطر) و(أمل دنقل) و(صلاح عبدالصبور) و(فتحي سعيد) و(ملك عبدالعزيز) و(نجيب سرور) وآخرين من حولهم لا يقلون عنهم في المغامرة المحفوفة بالمخاطر.
ونقص الدراسة أنها تناولت عدداً من الشعراء ولم تتناول عدداً من القصائد، والجمالية تكمن في القصائد لا في أعمال الشعراء بأسمائهم، إذ لا يمكن استحواذ أي شاعر على الجماليات المنشودة، فالقصيدة قد تستجيب لبعض مطالب الجمالية، فيما لا تستجيب قصائد أخرى لذات الشاعر لتلك المطالب، وهذا يمس العمل بالترهل وإضاعة فرصة التقصي لمكامن الجمال في الأعمال الشعرية.
وتناول الناقد لعنصر من عناصر التشكيل عند (محمد حسن فقي) لا يجلي الجمالية بكل أبعادها، ولكن الدراسة قد تكون مغرية لمزيد من التقصي لملامح الجمال. ولست أظن (الفقي) شاهد عدل لتحقيق الجماليات المنشودة، فشعره على الرغم من كثرته لم يكن مثيراً إلى الحد الذي يحمل على التماس الجماليات الحديثة، ولقد هيئت لي دراسة أعماله الشعرية في ثلاث مناسبات كرم فيها، وتجلت لي سمات وخصائص لا تكون الجمالية من أبرزها، وإن أطال المكث في الغنائية والذاتية، وهي بعض مؤشرات الجمالية.
والبعد القصصي في شعر (الفقي) يوحي بشيء من الجمالية وبخاصة عند التوفر على عناصر البناء القصصي والروائي كالحدث والظرف والسرد والحوار، وضوابط الشعر لا تمكن الشاعر من التوفر على تلك العناصر بالقدر الذي يتوفر عليه السارد، ولهذا أشار الدارس إلى أنه ليس شرطاً أن تتحقق كل العناصر في القصيدة القصصية. وإذا كان الدكتور (طه وادي) قد أبحر في تلك العوالم فإن امرأتين سبقتا لذلك، الدكتورة (عزيزة مريدن) في كتابها (القصية الشعرية في العصر الحديث) والدكتورة (لطيفة المخضوب) في كتابها (القصص الشعري في الإبداع السعودي المعاصر).
والأخيرة خصت الشعر السعودي، ولكنها لم تستحضر الجمالية الشكلية في النص القصصي، وإن أشارت إلى قيم فنية وجمالية عديدة، يضيفها القص على الشعر، لعل من أهمها فيما ذهبت إليه:
- تقريب الذات من الموضوع.
- التعالي على الغموض المضلل.
- إضفاء الجمال على بعض الأفكار.
- بروز الوحدة العضوية.
والدراسة التطبيقية على بعض الأعمال الشعرية للشعراء السعوديين، تكشف عن محاولات جادة لإضافة جماليات جديدة، ليست موجودة من قبل، ولكنها لم تكن ملفتة للنظر، لأنها شائعة في الشعر المعاصر عند أساطين الحداثة الفنية، ولقد أومأت في دراسات سابقة إلى تبدي الجمالية الحديثة في شعر شاعرين ظاهرين في المشهد الشعري هما:
- (جاسم الصحيح).
- (حمد الثبيتي).
ولقد حاولت التفرغ لاستجلاء هذه الجماليات عبر الدراسة التطبيقية، ولكن الشواغل استمرأت التسويف، وستكون لنا عودة إلى هذه المهايع، وبخاصة مكمن الجمال في قوة السبك عند (الصحيح) وقوة الخيال عند (الثبيتي).
وأحسب أن هاتين الخاصيتين هما مكمن الجمالية في أعمالهما، ولقد حظي (الثبيتي) بدراسات كشفت عن سرِّ التألق عنده، فيما لم تهيأ الفرصة لاكتشاف قدرات الشاعر (جاسم الصحيح).
ولقد أشرت من قبل إلى الجمالية في شعر (أحمد الصالح) الكامنة في سماحة اللغة، وتعالي تشكيله على النثرية، وتوفر الغنائية والذاتية، وهي من أهم مؤشرات الجمالية المعاصرة.
والجمالية حين تكون حسية، يكون توفرها في الوزن والقافية والمحسنات البديعية أكثر، غير أن النقد الجديد لم يكن حفياً بذلك، على أنه لم يقدم بديلاً، وشرط التحول أن يكون إلى الأفضل، والشعراء الشباب الذين استجابوا لهذه الرغبات، لم يتوفروا على الجماليات الصوتية المطلوبة، وكل اندفاع غير محسوب يكون على حساب الفن. والشعر حين يكون معهوداً ذهنياً يصعب تحديد شرطه الفني، ولهذا أخفق عدد كبير من الشعراء الشباب، ولم يكن المشهد النقدي حفياً بهم، الأمر الذي أحدث قطيعة بين النقاد والشعراء، وبخاصة الأكاديميين منهم.
وأكاد أجزم بأن طغيان النقد التنظيري على التطبيقي مرده إلى هذه الإخفاقات الجماعية، فالناقد التطبيقي يتطلب قصيدة استثنائية، ولا يمكن أن يتجلى الشعر إلا من خلال النقد التطبيقي، والشعراء الشباب يتهمون النقاد بالتخلي عنهم في ساعة العسرة، وأكبر الظن أن التخلي مرده إلى إخفاق القصيدة الحديثة، وعجزها عن التوفر على متطلبات الجمال، ومع التشاؤم من واقع المشهد الشعري فإن هناك من الشعراء الشباب من يمتلكون القدرة على إبداع قصيدة معاصرة تتوفر على جماليات معاصرة.
وبودي لو تضافرت الجهود على تجلية هذا الجانب لإبراز دور الشاعر السعودي، وأحسب أن مثل هذه الملتقيات كفيلة بتحقيق المراد.