كل شيء فينا يتغير أجسامنا، عقولنا، محيطنا، لكن كثيرا من هذه الأشياء لا يفقد شكله وهيأته - عند تغيره- حين يسكن ذاكرتنا لأن الذاكرة مقبرة ندفن فيها أشكال ما قبل التغيير.. فها نحن ما زلنا نذكر أنفسنا صغارا، ونذكر عقولنا مؤطرة ومحيطنا بشكل ولون آخر! وما زالت في ذاكرتنا زمكانية حياة مررنا في مدنها وأنخنا رحالنا عند ساقيتها يوما.. وها هي الذاكرة تخبرنا أنا نختزل في دواخلنا أزمنة وأمكنة كثيرة تفوق زماننا ومحيطنا.
* * *
فما زالت ذاكرتنا عصا نتوكأ عليها حين نقف على الأطلال، نرى في دمنها روحتنا وجئتنا في زمن غابر ونسمع أصواتنا في أركان متهدمة وجدران متثلمة، وما زالت ذاكرتنا معينا يتفجر بما لقنتنا الأيام وبما علمتنا الحياة بدءا من أول حرف نطقناه إلى ما كل ما راكمناه، وما زالت تتطور ولا تتغير وتخبئ الماضي فينا لأنها تعلم أن فضولنا لن يتنازل عن النظر إليه يوما ما.
* * *
ما زالت ذاكرتنا تخبئ دفاترنا التي كتبنا فيها بأقلام طفولتنا وصبانا وشبابنا وما زالت سجلا نمهر فيه مدادا هو قصتنا حين تتشابك مع قصص الآخرين مشَكِّلة رواية اسمها (عُمْر)..
فيه كثير من أشيائنا تتغير إلا الذاكرة.
* * *
أسأل نفسي عن بديع خلق الله لها فكيف يأتينا ماضينا ونحن في حاضرنا؟ وكيف نسمع من رحل ونحدثه ونعيش معه بمجرد أن نسهو عن الآن لنمتطي راحلة وجهتها إلى الماضي وتبقى الذاكرة ملاذاً نعيش فيه الأمس بزمن اليوم.. فهي ثابت لا يتغير حتى إن طالها (النسيان) فليس ذلك إلا لأنا نذكر جيداً أننا ننسى.. لكن هل تخيلنا يوماً حياتنا بلا ذاكرة؟
* * *
(وكل مساء، أحمل ذاكرتي إلى فراشي
أمدّدها تحت الأغطية الدافئة
وأجلس إلى جانبها لأقرأ كفّها حتى تنام)
(غادة السمان)
almdwah@hotmail.com