بغض النظر عن الخلفية الفلسفية والسياسية لموضوع الديمقراطية، إلاّ أنّ المتأمل في واقع تطبيقها في الدول الإسلامية بصفة خاصة، ودول العالم بصفة عامة، يرى حجم الخديعة التي نقع فيها، ويحاول العلمانيون وغيرهم تسويقها ببريق الألفاظ والشعارات الرنانة.
قبل ذلك نسأل: هل الديمقراطية وسيلة أم غاية؟ وهل مجرّد تسيير الدولة تحت مسمى (الديمقراطية) يعطي العابثين صكاً لا يُنازع ليفعلوا ما يشاءون؟
لقد منحت الولايات المتحدة الأمريكية لنفسها مطلق الحرية في التحكم بمصير الشعوب، بما في ذلك الإغارة عليهم، مستندة إلى دعوى فرض الديمقراطية على دول العالم الإسلامي ونقل الديمقراطية بكل الطرق ولو على صهوة الدبابة وجثث الآلاف، ولكننا نرى أنّ كثيراً من دول العالم الإسلامي اليوم تتكلم باسم هذه الديمقراطية وتعلن أنها تحكم وفق مبادئها، فهل الأمر واقعي أم هو مجرّد لعب بالألفاظ وسراب يحسبه الظمآن ماء؟ وهل وجدوا الديمقراطية عصا موسى والحبة السوداء شفاء من كل داء؟
لقد تمكن الإسلاميون في تركيا من خلخلة الطوق العلماني المفروض على البلاد منذ إلغاء الخلافة على يدي مصطفى كمال أتاتورك، ووصلوا عن طريق هذه الديمقراطية إلى أعلى مناصب الحكم، ولكن هل كان هذا كافياً ليمنحهم شرعية البقاء؟
لقد شهدنا ولا نزال فصول الصراع المرير بين العلمانيين الأتراك وبين الإسلاميين، وهي فصول اختلفت مشاهدها باختلاف الوضع وطبيعة المتغيرات الدولية، فالعلمانيون سعوا إلى مصادرة إرادة الشعب أكثر من مرة، رغم أن الديمقراطية تعني في الأساس الانصياع لإرادة الشعب، وحكموا بحل أحزاب إسلامية ومعاقبة زعمائها بالسجن أو المنع من الحياة السياسية، كما حدث للبروفيسور نجم الدين أربكان، أو حتى رفع دعاوى بحل أحزابهم بحجة أنها تشكل خطراً على النظام التركي، ولن يكون آخر فصول هذه الصراعات المطالبة بحظر حزب العدالة والتنمية وهو الحزب الحاكم برئيس للدولة ورئيس للحكومة رغم أن قرار المحكمة الدستورية جاء لصالحه.
وما حدث في تركيا حدث في بعض الدول الإسلامية، حيث صودرت إرادة الشعب الذي انتخب بعض الأحزاب الإسلامية، إما بالتزوير أو بإلغاء المسار الانتخابي من أساسه، رغم أنّ الشعب اختار ممثليه الإسلاميين وفق قواعد اللعبة الديمقراطية، ونحن لا نتكلم هنا عن أهلية هذه (الأحزاب الإسلامية) لحكم بلدانها، ولكن الذي يهمنا هو أنه رغم اختيار الشعب لها فإنّ هذا الاختيار سيخضع للوصاية.
من هذا المنطلق، يُخطئ العلمانيون خطأ كبيراً عندما يمارسون الوصاية على الشعوب العربية والإسلامية، لأنهم من منطلق مبادئهم العلمانية يرفضون أي وصاية مهما كان مصدرها، ولو كانت وصاية السماء وشريعة الرحمة والعدل، ولكنهم بالمقابل يمارسون الوصاية على الشعوب بدعوى أنها لا تعرف مصلحتها، أو أنها غير مؤهلة للاختيار ما دامت تختار الإسلام في الانتخابات التي تتم تحت غطاء (الديمقراطية) التي يدعون إليها ويُقدّسونها!
لقد أنتجت عصور قوة الإسلام ثروة علمية ومعرفية كبيرة، وسمحت ببروز علماء ومفكرين وفلاسفة أناروا ظلام العالم المتخلف حينها، فكان النظام الإسلامي خير نظام خلق فضاءات للحرية والإبداع والازدهار والرقي، وكان خير نظام عاشت فيه الأقليات غير المسلمة، لأنه حفظ لها معتقداتها ودماءها وكرامتها، وسوى في المعاملات بينها وبين المسلمين، وهو أمر لم يشهد التاريخ له مثيلاً.
كان ذلك حكماً إسلامياً يستمد سلطته ومبادئه من الشريعة والالتزام بهدي القرآن الكريم والسنّة النبوية المطهرة وسير الأئمة والعلماء والصالحين، ازدهرت فيه الحرية وانتشرت فيه المعرفة وحورب فيه الجهل، وحفظت فيه إرادة الأمة وروحها وكرامتها وشرفها، ولم يتم كل ذلك تحت غطاء (الديمقراطية).
والقاعدة تؤكد لنا يوماً بعد يوم: إذا لم نتمسك بقيمنا الأصيلة، فلن نلقى في عالم القرية الكونية سوى الفناء والانصهار وفقدان الهوية والسلطة والاستقلال، بكل أنواعه، فما هو خيارنا؟ .. نكمل غداً بإذن الله.
****
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب 8300 ثم أرسلها إلى الكود 82244