جئت إلى هذا العالم كي أرى هذا: السيف يسقط من أيدي البشر، حتى في أعلى درجات حمى الغضب، لأننا أدركنا أخيراً أن الذي نطعنه ليس إلا الجسد الواحد (الشاعر الفارسي حافظ، القرن 14 الميلادي).
بهذه القطعة الشعرية اختتمت الكاتبة والمعالِجة النفسية
ألكسندرا عسيلي مقدمة خلاصتها لكتيبها المعنون - كسر دورات العنف في لبنان - وما بعده ( الذي صدر مؤخراً بعد نهاية الأحداث الأخيرة في لبنان. وأفكار الكتاب يمكن الاستفادة منها لكسر وتفكيك دورات وحالات العنف ذات الجذور القديمة.
تكثر النظريات حول تفسير ظاهرة العنف ومعالجتها، وهناك عموماً طريقان. الأول بنيوي ومؤسساتي، يبحث عن البناء الأفضل في السياسة والاقتصاد والبنى الاجتماعية المسببة للصراعات. ومن ثم يضع الحلول على المستوى البنائي عبر ضبط التركيبات السياسية والاجتماعية والاقتصادية ضمن إطار مناسب لينتفي الصراع. وهذا الطريق هو مقاربة للحل من فوق إلى أسفل.. والطريق الآخر هو حل النزاع من أسفل إلى فوق، بالنظر إلى جذور النزاع الأساسية ومحاولة تفسير الدوافع الانفاعلية الأساسية للنزاع، وكيف يأخذ مجراه الخاص، ويدرس دور العلاقات بين الأفراد وأوضاعهم النفسية وخلفياتهم، وأسباب المشكلة، ومن ثم حلولها..
أما المؤلفة عسيلي فترى أن أيا من الطريقين لا يكفي لتفسير أسباب تكرار النزاعات عبر الأجيال بالرغم من تغييرات البنى، وبالرغم من التحسن في مستويات التعليم والوضع المادي. وهما لا يحلان المآخذ المتأججة التي تشكل المنبع العميق لتجدد النزاع. وهكذا فإنهما يقومان على تخفيف أو تأجيل النزاع وليس على حلّه.. وترى المؤلفة أن مقاربتها مكمِّلة لهذين الطريقين، عبر سعيها لتفسير العلاقات الشخصية والبنيوية على ضوء آخر. فما يمكن إحداثه على مستوى الفرد من الممكن أيضاً تطبيقه على مجموعة أفراد، ومن ثم يمتد إلى التركيبات السياسية بين المجموعات حتى يصبح بالإمكان تغيير البنى التي لا يمكن تغييرها بأي وسيلة أخرى..
تبدأ المؤلفة بسرد قصتها الخاصة مع العنف، معتبرة الحروب جزءاً من تاريخها، حيث ترعرعت خلال الحرب العالمية الثانية، ونشأ والدها أثناء الحرب العالمية الأولى وفقد فيها أخاه، وحيث هربت والدتها من الثورة الروسية وأصبحت عائلتها لاجئة.. ثم زواجها في لبنان حتى أطاحت بها الحرب الأهلية اللبنانية واقتلعتهم جميعا..
وتبين الكاتبة كيف وصلت إلى اكتشاف مسائل دورات العنف والمآخذ الموروثة.. وأعطت أمثلة جاءت بها من مهنتها كمعالجة نفسية في عيادتها في لندن، لتبين كيف وَضعت هذه النظريات موضع التطبيق العملي، وكيف تدعمت بعمل الآخرين. وقد بيَّنت هذه الأمثلة كيف يؤثر الأجداد في خلق دورات العنف، موضحة الترابط الوثيق بين نزاعات الحاضر ومآخذ محفوظة خارج الوعي، آتية من جماعات ماضية تديم دورات العنف وتمهد للحقد والثأر.. وكيف أن التاريخ يعكس ويحرك توترات راهنة، كما هو في أيامنا هذه في كثير من بقاع العالم..
وتستفيد المؤلفة من أطروحات علم النفس الحديث خاصة ما طرحه عالم النفس كارل يونغ، الذي استخدم فكرة (اللاوعي القبْلي)، حيث تقدَّم العلاج النفسي إلى ما بعد الحدود التي رسمها له التحليل النفسي، لأنه يأخذ في الاعتبار تأثير الأجداد، وليس فقط حالة الإنسان الخاصة فيه.. وكذلك النظر إلى هذه الظاهرة على مستوى الجينات، باعتبار أن لها ذاكرة يمكن أن تقفل وتفتح حسبما ذكر البروفسور وولف رايك من كامبرج..
وتختم المؤلفة سيرتها بمثال في بعض مناطق الهند حيث يدربون الفيلة الصغيرة بربط إحدى أقدامها بسلسلة حديد مثبتة بوتد لبضع سنوات في مطلع عمرها، فمتى كبر الفيل لا يغادر المكان لأنه يبقى أسير ذاكرته. ونحن كذلك أسرى ذكريات قديمة ومكبلون بالماضي.. ولكن كيف يمكننا أن نتوقف عن أن نصبح أسرى للذكريات المؤلمة الناجمة عن صراعات قديمة، وكأننا كنا حاضرين شخصياً عندما وقعت؟ كيف نصبح أجداداً صالحين؟ كيف يمكننا أن ننظف شراييننا السالفة بحيث يصبح أولادنا أحراراً للعمل في الحاضر؟
عندما نتعاطى مع الماضي (فإن الهدف هو أن نترك التاريخ يثقفنا لا أن يتحكَّم بنا) (مادي جوستافسون).. تقدم المؤلفة الوسائل التي يمكن أن تساعد الفرد على مواجهة قصصه الخاصة وتغيير التصرف المؤدي إلى النزاع العنيف. هذه الوسائل تتضمن، بصورة عامة، ثلاث خطوات متوالية أو متزامنة. الخطوة الأولى تقضي بأن نتحمل مسؤولية الدور المباشر وغير المباشر الذي نلعبه في توليد الصراع. وهنا تلزمنا الشجاعة والصدق والتواضع كي نرى هذا الدور من موقع أكثر تأملاً، وقد نكتشف أننا لسنا معنيين قدر ما نتصور بهذا النزاع.. مسافة التفكير هذه هي المساحة التي يمكن فيها أن تتبلور وجهات نظر أخرى بديلة ومنقذة..
وهذا يقودنا إلى الخطوة الثانية، وهي تغيير تصرفاتنا ومعتقداتنا حول النزاع، أي فتح الباب أمام نظرة أكثر تعاطفاً.. ولا نعود متمسكين في ذهننا بإلقاء اللوم على الآخرين بسبب أخطاء في أوضاعنا.. وقد تبدو بعض الطرق المؤدية إلى هذا الوعي وتغيير السلوك واضحة، لكن اتباعها قد يكون صعباً للغاية، لذا تطرح المؤلفة أمثلة وملاحظات عديدة يمكن أن تساعدنا في ذلك..
وبينما نحن نعزز الأنماط المساعدة ونكتشف الأنماط المؤذية، نصبح أكثر انفتاحاً وأكثر قدرة على حلّ المصادر الأساسية للخوف والألم والغضب والثأر التي يمكن أن تكون عزيزة جداً علينا.. وهنا نصل للخطوة الأخيرة إنها (السماح) (forgiveness).. نحتاج أن نتعلم كيف نسامح. هذا لا يعني النسيان.. ولا يعني القبول بمواصلة الأذى، أو إنكار الذكريات المؤلمة.. ولا أن نعذر المعتدي، ولا أن نتخلى عن حقنا في العدالة.. الخ، بل السماح هو عملية شفاء ذاتي ينتفع بها الفرد وتنتفع بها الجماعة.. السماح هو فعل لحماية الذات، وليس هبة تُعطى منا للآخرين (أو من الآخرين إلينا)، بل نعمة من خلال تخلينا عن ألمنا، وتحررنا من أحقادنا..
ليس بالإمكان أن نرغم أحداً على الدخول في عملية التفهم والسماح، بل المسألة أن نصبح راغبين بها لأفساح المجال أمام أنفسنا لإحداث التغيير في نظرتنا للأمور التي تكبِّل مواقفنا، ولكي يصبح ممكناً أن نفكك أنماط كانت تبدو جامدة وغير قابلة للتغيير.. وبهذا يمكننا أن نقترب من السلام الدائم عبر طريقة مختلفة في مواجهة ذكرياتنا..
إن حريتنا تتحقق عندما نعي أنه من أجل أن نزدهر ونحيا ونخرج من سجون كراهيتنا وأحقادنا ولا نبقى أسرى الماضي الذي لم يعد موجوداً إلا في أذهاننا، لا بد لنا أن نسامح ونعيش أهدافنا الحقيقية بكل حيوية. بهذه الطريقة نصبح أجداداً صالحين.. إن السماح يبدأ بخيار أن نكون أحرارا.. أحياناً نشعر بأننا بالسماح ندع الآخر ينجو بجلده من الحكم العادل ويكون حرَّا.. المشكلة في طريقة التفكير هذه هي أننا نحن الذين نبقى مقيدين!
alhebib@yahoo.com