حينما عُين محمد في وظيفته الجديدة راح يصب كل مقدراته العلمية والفكرية فيها، يستيقظ كل يوم بنشاط محموم.. يدب الأرض برجليه واثقاً أن هناك مشاغل كثيرة تستثير اهتمامه.. تتلقى زوجته هيفاء وجهه المشرق بابتسامة مبهرة.. يشرب الشاي على عجل ويمضي مصراً على اختراق الزمن.
عندما يجلس على مكتبه يندهش من تلك العيون التي تحدق به صامتة كأنها تحمل شيئاً من التهكم، عقد حاجبيه ومثل قامته يتنفس الصعداء (ما بكم تنظرون إلي وكأني آت من كوكب آخر).
قهقهة أحدهم وهو يحتسي الشاب وفي يده الأخرى قطعة بسكويت.
خذ هذه القطعة، الدنيا لا تحتمل كل هذه الجدية:
أدار محمد ظهره ساخراً (هذه فلسفة جديدة).
أجاب صاحبه (ستلقنك الأيام درساً لن تنساه).
هز كتفيه غير مبال..
أوراق مبعثرة يبحث فيها بدقة.. يستكشف أموراً غريبة، أرقاماً تتضارب مع الواقع المفروض.. سحب بعضها وتوجه إلى المسؤول..
كان المدير يجلس على كرسيه الهزاز يستدير به حيث مصالحه الخاصة يهمس في تلفونه مازحاً، تحمل ساقاه الكبيرتان كرشاً متضخمة تكاد تغوص حتى الأعماق.
صرخ غاضباً: ما هذا كيف؟ اقتحمت مكتبي؟
ازدرد محمد ريقه وهو يضع الأوراق بيدين مرتعشتين كأنه يحمل عبئاً كالجبال فوق كتفيه.
يا حضرة المدير ثمة تلاعب في الميزانية.
بدا المدير مندهشاً، طافت على وجهه سحابة من الضيق والحيرة بددها بابتسامة صفراء وحاول أن يفتعل الدهشة صحيح؟ هاتها لأرى!
التقطها المدير بتخابث وهو ينظر إلى محمد مذعوراً.
اذهب الآن.. دعني أطالعها.
عاد محمد إلى مكتبه منتفخ الصدر كأنه حقق أعظم انتصار، هذا الخطأ قد وقع سهواً، كان يحتاج إلى عينين حاذقتين تسيران الأرقام بدقة وحذر.
بينما العيون تغمر في همس غريب تتراءى خلف بساطته وعفويته تتهكم عليه حتى الثمالة، رجل أبله لا يتماشى وقوانين هذا الزمان.
فثمة قرارات جديدة تصدرها الشركة في بعض الأحيان يتأوه حينما يعلم فحواها.. أنها شدت البساط من تحت أقدام الفقراء وتكتم صرختهم علانية والرؤوس مطاطأة والأعناق منكسرة فتحاجج محمد مع المسؤولين واعترض حتى التف حوله بعض الأشخاص ممن تضرروا من هذه القرارات.
المدير يتذمر لا يكاد يحتوي هذه المشكلات حتى تظهر في الأفق قضايا صغيرة تستحوذ على اهتمام الموظفين وتصبح محور حديثهم في الأقسام.
في لقائه الثاني مع المدير هنأه تهنئة ثعلب يضمر في رأسه خطة محكمة للقضاء عليه وعلى وجهه اللزج تتقافز ابتسامات حذرة.
لقد قلت درجة كبيرة وستنتقل الشركة إلى مركز حساس يتطلب منك مجهوداً ومثابرة، لكن ثمة عيباً قد ينغصك!
استدرك محمد دون أن ينفعل: ما هو!
- المنطقة نائية لكن راتبك سيتضاعف.
علقت الفكرة في رأس محمد لكنه مضى يعتذر وهو يستحضر مسؤولياته: هناك مشكلات صغيرة تحتاجني فلا أستطيع التخلي عنها، ثم صمت وتناهت إلى ذهنه فكرة.
بالمناسبة ماذا فعلت بموضوع الميزانية.
رسم المدير على شفتيه ابتسامة عريضة
لا تقلق بالك فقد تداركنا الأمر!
- هل أستطيع الاطلاع عليها!
غضب المدير، كاد أن ينفث بخار سحطه المتأجج في وجه هذا المعتوه! (هذا الأمر لا يعنيك الآن)!
لم يكن الأمر يحتمل كل هذا الصبر لابد أن تفعل الإدارة شيئاً لكتمان هذه الفضائح، الموظفون الخاملون الذين استطعموا شرب الشاي في مكاتبهم قد دبت الحياة فيهم.. واستيقظت هممهم وراح كل واحد منهم يبحث عن ذاته منطفئة الطموح، كل شيء يستحثهم الآن على تطوير أنفسهم ومطالبة حقوقهم الضائعة، لِمَ كل هذا الخمول؟ لِمَ كل هذا الخمود؟ لِمَ لا نخطط قضايانا من جديد بعقل يقظ؟.. وبدأ الفراشون يتهامسون في مطابخهم بعضهم يقول لبعض: إننا نعمل لساعات إضافية دون مكافأة.. لقد هدرت حقوقنا فلنتحد ونؤسس جمعية خاصة بنا.
ما هذا الذي يحدث؟ تمرد! سخط! ماذا يريد هؤلاء الشرذمة! يجلسون على مكاتبهم دون عمل ويقبضون رواتب عالية ينبغي أن نطرد المصدر المثير لهذه المشاكل.