لم يبق في الشط المهجور غير نورس وأنا نورس، ربما فاته السرب ورحل في الأفق إلى البعيد فموسم الرحيل تراءى في عينيه عبر الشفق فأصبح يقفز بين الصخور السوداء الحزينة كلما رأى موجة راوقها إلى صخرة أخرى.
ينقر الذهبي بالكاد يجد بين الصخور شيئا ربما نملة جائعة أيضاً ويلتهمها وتؤلم حلقه قرصا قبل أن تموت.
وأنا هنا كمن تنفس البحر أهداني ألما جديدا ووحشة بدلاً من أنس كنت أرنو إليه.
هل يشبهني هذا النورس فهو وحيد مثل ذهب اقرانه يتقافزون في الضياء إلى حيث الغيم والورد والفراشات والربيع.. لماذا تخلف هذا الجندي الأبي..
هل أهيض جناحه وما ذنبه فيما آل إليه حاله..
أظن قدره أن يعيش الشقاء هنا معي في شط ربما يغمره الصقيع ذات مساء ولن تسمع غير أغاني الصيادين ورائحة السمك المشوي عندما تعبر مراكبهم وهم يغنون أغاني موغلة في القدم كان يغنيها الصيادون منذ آلاف السنين ربما هذا البحر هو الذي يقذف في أفواههم لحن الأمسيات الحزينة الذي يجاوبه صدى الصخور ويرتد كسيموفونية تشبه شقشقة هذا النورس. وهمت أن أحمل هذا النور إلى كوخي غير اني احترمت حريته ولكن ربما يتجمد ربما يتجمد على الشط إذا لم يطر من هنا وأنى له ذلك.. ومع احترامي لحريته وحفاظا عليه ووضعته في كفي وهو يرتجف من البرد والألم والجوع.
ورأيت في عينيه ألما وشوقا إلى الهجرة وفقدان السرب وهممت بوضعه في قفص ولكن احترمت حريته أيضاً ووضعته أعلى القفص وقدمت له بعض سنابل وعشب عله يتعافى قبل موسم آخر للرحيل.
بعد أربعة أسابيع بدا يحلق قليلا مع الغروب ويحط رحاله على الكوخ وتغير صوته وأصبح فيه شيء من الحنين ربما بسبب الفراق.
وذات صباح من أيام سبتمبر رأيت مدثر ابن الجيران يتسلل قرب الكوخ ويحمل نبله ويترصد النورس كي يصيبه في مقتل وأمسكت بتلابيبه قبل أن يطلق صاروخه القاتل نحو النورس واعتذر الصغير ذو الشعر الذهبي والعينين البراقتين وقال:
لم أعلم بأن لك نورساً واستدرك.. أنت فقط تربي الحمام.. وقلت في سري.. أنا أربي الحرمان. وألف النورس الكوخ وأصبح يغدو ويروح في أول اكتوبر وعند الأصيل بدأت أسراب النوارس هجرتها نحو الجزر الدافئة فتغير لحن النورس وأصبح يرسل لحنا جديدا يشبه نغم الفوز الجميل.
وعندما عدت من البحر مساء اليوم التالي وأنا أحمل سلة السمك ومنارتي القديمة.. لقيني مدثر وهو حزين. ذهب النورس يا عمي.. حاولت أن أصيده وهو يلحق السرب ولكنه أفلت مني وقفز ككرة المضرب وعانق أحد أفراد السرب في الفضاء.. قال مدير هذا وهو مطاطئ الرأس وسلمني خطابا جاء بالبريد للتو ووجدت فيه صورة فيزا من صديق قديم يدعوني لزيارة بلد تبعد أربعة آلاف ميل هي بلدي وأخيراً وجدت من يدعوني لزيارة بلدي وكأنها مواسم الرحيل تتزامن في شتاءات العمر قبل النوى والجفاف ولكن قبل الرحيل إلى الغابة والصحراء وسأودع البحر وصخوره السوداء وستوحشني وحشته عندما تأتي النوارس من الشمال في هجرة أخرى هناك في الأمسيات الاستوائية، هناك في أرض الخلاسيين أرضي، أرض الدف والباباي والأناناس.