كانت الساعة تشير إلى وقت الهاجرة في صيف أعيته سلطة الشمس الحارقة حينما أقبلت جامحاً براحلتي المتوقدة فوق صفيح الأرض الملتهبة على نقطة أمنية. لم تقع نظرتي الأولى إلا على منظر السراب الذي كان يداعب أقدام رجال الأمن البواسل فانشغلت في هذه اللحظة بذاك المنظر الساحر، وبعزيمة هؤلاء الذين يعملون في حميم الشمس وسموم الهجير.. وما هي إلا ارتدادة طرف حتى وجدت نفسي بين أيديهم، وعلى غير العادة - هداني الله - لم أحتزم بالأمان، قد تكون شدة الحرارة سببا، فلما أسقط في يدي وعلمت بارتكابي المحظور عندما طلب مني أحدهم الإثبات لتحرير المخالفة، سكبت على وجهه (ابتسامة) باردة كانت كفيلة لإطفاء نار القيظ الذي يقاسيه، حينها فوجئت بأنه قد ردها علي بالمثل: (لأجل هذه أقلتُ عثرتك) قالها بابتسامة ظريفة.
يقول لي صديقي: عندما انتقلت للعمل في التعليم العالي قادما من التعليم العام في منتصف الفصل الدراسي المنصرم، وبعد مضي شهر من هذا الانتقال فوجئت برقم غريب يضيء مرناة هاتفي! لم أتردد في الرد على الاتصال، فإذا هو أحد طلابي في التعليم العام، على الرغم من أنني لم أعط رقم هاتفي لطالب قط! بعد التحية والسلام، وبعض الأسئلة: أين أنت؟ ألن تعود مرة أخرى؟ لماذا لا ترجع؟ لو أكملت ما تبقى من السنة الدراسية؟ أخذ يتوسلني بالرجوع مرة أخرى! ومع الإلحاح الشديد خشيت عليه من حالة (هستيرية)، إذا ما علمت أن صوته بدأ يتقطع مع تدفق العبرات! يقول: لم أتخيل يوما أن يأتي طالب ليلح عليَّ بالعودة، وخصوصا هذا الطالب، فهو من وسط الطلاب ليس متميزاً أو ضعيفا، ولا أذكر أنني أعطيته مزيد فضلٍ وحظوة من بين أقرانه! حاولت أن أقنعه بأنني قدمت كل ما أملك وقت تدريسي لهم، ولم يعد لدي شيء أقدمه أكثر مما مضى، ولكل بداية نهاية.. إلى أن سألته:
معلمكم لا يشرح جيداً؟
لا، بل يتميز في هذا الجانب.
يعاقبكم بشدة؟
لا، وهو في قمة الإحسان إلينا.
ما المشكلة؟
أجابني قائلا: نريد (ابتسامة)!
لفتة: ابتسم تمتلك قلوب الناس.
عضو الجمعية العلمية السعودية للغة العربية
mawakeb-asa@hotmail.com